ليل الأربعاء الماضي وبعد الافطار مع عائلته، جلس سيف الزرقي مع أصدقائه في مقهى بمسقط رأسه في قعفور وتجاذب معهم الحديث حول كرة القدم وفريقه المفضل وعن موسيقى الراب ومواهبه في رقص البريك دانس.

Ad

صباح الخميس التقى سيف عمه علي الرزقي ليتحدث معه عن شؤون العائلة التي عاد إليها ليقضي عطلته بعد انتهاء العام الدراسي وانتهاء الدروس في الكلية التي يدرس بها في مدينة القيروان التاريخية.

ولكن اليوم التالي، وهو يوم الجمعة كان مختلفاً عن الأربعاء والخميس.. مشى سيف الرزقي بثبات على شاطئ  فندق مرحبا امبريال في منتجع سوسة السياحي الشهير ثم فتح النار من سلاح الكلاشينكوف وقتل في خمس دقائق 39 سائحاً أجنبياً في هجوم تبناه تنظيم الدولة الإسلامية.

صدمة

مرة أخرى تلقت تونس صدمة قوية بتحول أحد أبنائها من الذين تبدو حياتهم عادية إلى متشدد يحمل ايديولوجيا عنيفة قادته لاسوأ هجوم دام في تاريخ البلاد.

ومرة أخرى أيضاً سقط شاب حاصل على تعليم جيد فريسة في يد جماعات دينية متشددة استقطبته وحولت وجهته من كرة القدم والرقص والموسيقى إلى "مستنقع الجهاديين".

وفي بلدة قعفور النائية والمعزولة شمال العاصمة تونس لا يدري أصدقاء وجيران وعائلة الرزقي كيف أصبح ابنهم وصديقهم المفضل قاتلاً مسؤولاً عن أكثر هجوم دامٍ في تاريخ البلاد.

وقال مسؤولون وشهود أن الرزقي كان المسلح الوحيد الذي فتح النار باتجاه السياح على الشاطئ ثم توجه للمسبح داخل الفندق ليحصد مزيداً من الأرواح قبل أن يكمل رحلته الدموية داخل أروقة الفندق ويقتل بعد ذلك برصاص قوات الشرطة.

زي سائح

الرزقي الذي تخفى في زي سائح وأخفى سلاحه باتقان تحت مظلة شمسية سرعان ما كشف وجهاً قبيحاً فاتحاً النار ليقتل عشرات السياح من بريطانيا والمانيا وبلجيكا أثناء استجمامهم على الشاطيء.

وتماماً مثل مهاجمي متحف باردو في مارس الماضي اللذين قتلا 21 سائحاً أجنبياً لم يظهر الرزقي مظاهر تشدد ديني.

الرزقي -الذي كان مولعاً بالبريك دانس والراب وكان يعشق فريق النادي الأفريقي المتوج بدوري تونس لكرة القدم- كان يعمل في أحيان كثيرة عندما يعود إلى بلدته قعفور في مقهى بلحسن في وسط البلدة.

بيت العائلة

أمام بيت العائلة المتواضع يجلس عمه علي الرزقي على مقعد حيث ستقيم العائلة سرادق عزاء بانتظار تسلم جثة ابنهم، ويقول علي لرويترز "لا أحد يمكنه أن يتخيل انه يمكن أن يبث في نفوسنا ونفوس العالم كل هذا الرعب".

ويضيف "قد يكون تغير أين يدرس في القيروان.. قد تكون الانترنت سبباً في تحوله ولكن لا جواب لي".

عمه الذي بدا متأثراً ومنهاراً قال أن ما حصل "أمر غير مشرف ولكن ما يثير قرفنا وقلقنا أن سيف سقط ضحية... وأضاع حياته ومستقبله ودراسته المتفوق فيها.. مرعب أن ترى أناساً أبرياء يقتلون بذلك الشكل البشع".

ومثل كثير من البلدات النائية تبدو قعفور مقفرة تماماً وتسير وتيرة الحياة فيها ببطء.

ميكانيكا الطيران

ويروي أصدقاؤه وجيرانه أن الرزقي كان شاباً مواظباً على صلاته وأحياناً في البيت ولكنه لم يكن يتحدث تماماً عن المسائل الدينية، الرزقي الذي كان يدرس ميكانيكا الطيران في القيروان كان يفضل العودة لقعفور باستمرار للالتقاء بأصدقائه.

وقبل يومين فقط من الهجوم الدموي الذي نفذه في سوسة التقى سيف مع أربعة أو خمسة من أصدقائه في مقهى ودار بينهم حديث عن الكرة وردد مع رفاقه أغاني وأهازيج الكرة التي تطلق في مدرجات كرة القدم.

ويقول محمد وهو صديق مقرب من سيف "لم تكن لديه أي علامات تشدد ديني.. بل هو لم يتحدث معنا تماماً في الدين.. إنها صدمة عنيفة أن ترى صديقاً لك قضيت معه وقتاً طويلاً يتحول إلى قاتل بلا رحمة".

خطوات متشابهة

ومهما كان دافعه، فإن الرزقي سار في طريق مماثل لعديد من أقرانه من لاعبي كرة قدم وطلبة وموسيقيين تركوا مدنهم وعائلاتهم وارتموا في أحضان تنظيمات دينية متشددة في تونس وليبيا وسورية وغيرها.

وتقول السلطات التونسية أن حوالي ثلاثة آلاف شاب تونسي سافروا للقتال في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية في سورية بينما يصل عدد المقاتلين التونسيين في ليبيا إلى حوالي ألف مقاتل.

وأصبحت الجماعات الإسلامية المسلحة أكبر تحد يهدد الديمقراطية الوليدة في تونس منذ انتفاضة 2011 التي أطاحت بالرئيس السابق زين العابدين بن علي.

ومنح المسار الديمقراطي في تونس البلد دستوراً جديداً وانتخابات حرة ومناخاً تعددياً وحريات لكنه سمح أيضاً بتوسع نفوذ الإسلاميين المتشددين الذين استغلوا مناخ الحرية ليسيطروا على عدة مساجد ويبثون خطابات متطرفة في بلد كان ينظر إليه على أنه أحد قلاع العلمانية في العالم العربي.

وينحدر أحد مهاجمي متحف باردو في مارس الماضي من بلدة نائية تشبه قعفور بينما الآخر يقطن في العاصمة تونس، وقضى المهاجمان الاثنان وقتاً في ليبيا تلقيا خلاله تدريبات على استعمال الأسلحة قبل العودة لبلدهما لتنفيذ هجوم دام.

إلا أنه لم يتضح بعد بشكل جلي كيف سقط الرزقي في هذا التيار، وهناك اشارات قليلة لكيفية استقطابه ضمن تنظيمات متطرفة، فمسجد قعفور لم يكن تحت سيطرة ائمة متطرفين.

القيروان

الرزقي قضى حوالي ثلاث سنوات يستأجر بيتاً في مدينة القيروان التاريخية، ومنذ 2011 توسع نفوذ جماعة أنصار الشريعة وتمكن متشددون من السيطرة على منابر عدد من المساجد هناك.

ولكن السلطات قالت أن الرزقي لم يكن على لائحة المراقبة وكان غير معروف لدى الأمن ولم تحم حوله شبهات تطرف اسلامي.

وقال مسؤول أمني رفيع لرويترز "الثابت إنه كان في الأشهر الأخيرة على علاقة مع متطرفين عبر الانترنت".

وأضاف أن الأدلة الجنائية أظهرت أن طلقات الرصاص في مذبحة سوسة كانت من سلاح واحد وأن الرزقي كان المهاجم الوحيد.

وقد يكون الرزقي نفذ هجومه الدموي على طريقة تعرف باسم "الذئاب المنفردة" متأثراً بخطابات الجهاديين قبل أن يلتحق بتنظيم متشدد ولكنه أخفى بشكل متقن هذا السر حتى الساعات الأخيرة من حياته مراوغاً قوات الأمن في بلاده واصدقائه وعائلته وكل من عرفه بهجوم دام أزهق خلاله أرواح عشرات السياح.

بريك دانس

ويقول أحمد العجيمي وهو صديق قريب من الرزقي لرويترز "سيف كان بارعاً في البريك دانس وكان طيباً وخلوقاً وبشوشاً ولا يغضب بسرعة وإن غضب فيعود بسرعة للمزاح".

ويضيف صديقه الذي قضى معه سنوات في التدريب على البريك دانس "من الصعب أن تصدق هذا.. لا يمكن أن اتخيل أن صديقي الذي قضيت معه سنوات في اللهو والرقص هو ذاك الشاب الذي بين يديه سلاح كلاشينكوف وراح يقتل يميناً ويساراً.. إلا أن نحن نعيش حياة مجنونة فعلاً يتعين ان تتوقع فيها كل شيء".