للعالقين بين بوابتين!
تتقاذف خطواتنا بوابات السنين، بوابة تفضي بنا إلى بوابة بعدها، وخلال لهاثنا ما بين كل بوابة وأخرى يسقط سهواً من حقيبة العمر التي نحملها فوق ظهورنا أناس وأيام وأماكن وذكريات وأشياء أخرى كثيرة بعضها مهم وبعضها الآخر لا نفع به، ونضع في تلك الحقيبة أمتعة أخرى تتمثل بأناس آخرين وأماكن أخرى وذكريات أخرى وأشياء جديدة بعضها مهم وبعضها الآخر لا أهمية له، وحدها الأيام التي تسقط من حقيبة العمر لا يمكن استبدالها أو الاستعاضة بسواها عنها، الأيام حاضنة لحظاتنا التي نعيشها في الحياة، والخزنة التي تحوي كل ثانية نقطفها من شجرة الزمن، هي الوحيدة التي لا يمكن أن نسترجعها أو نجد عوضاً لها أو حتى نتمكن من إيقاف رحيلها إلى غير رجعة، كل يوم هو عود ثقاب قابل للاشتعال مرة واحدة فقط، فإما أسعفنا الحظ وربما حسن التدبير من الاستفادة من عود الثقاب هذا زمناً يمتد إلى أكثر من يوم، أو خاننا حسن التدبير والحظ معاً، وذهب اشتعاله هباء منثوراً في ذمة الريح، إما اقتنصنا فرصة اشتعاله فأشعلنا به ناراً تضيء ما حولنا وتطرد البرد والظلام والوحشة لأيام أخرى مقبلة، أو أضعنا الفرصة بمجرد انطفاء ذلك اليوم بانتظار اليوم الذي يليه والذي قد لا نستفيد أيضاً من شعلته ليضيع كما ضاع سابقه.
بين بوابة سنة أُغلقت وبوابة سنة جديدة تُفتح، البعض يبقى عالقاً، فتصبح المسافة بين البوابتين على صغرها مناخاً ينيخ فيها راحلته ويعقل نداءاته فيها، يظل واقفاً عند البوابة القديمة برجاء أن تفتح من جديد ولو للحظة تكفيه لالتقاط ما سقط من حقيبته في غفلة منه، أو ليأخذ معه ما نسي أن يضعه في حقيبته أو ما لم يعطه حق قدره أو يعرف قيمته وأهميته إلا متأخراً، بعد أن أخرجته السنة خارج أسوارها وودعّته وأغلقت أبوابها خلفه، ويظل يطرق تلك البوابة بكل إصرار لعل قلبها يضعف للحظة أو يعطف أمام سحائب الندم التي تنهمر منه، لينبت على مدخل تلك البوابة ما تيسر من عشب الأماني الضارة، والآمال المفخخة بالشوك، والتي لا تملك مفتاحاً لبوابة مغلقة، فيصبح هذا البعض تائهاً بين بوابتين: بوابة أصبحت بين يدي الماضي، تأبى بكل عزيمة أن تفتح ذراعيها للخارج منها، وبوابة مفتوحة على مصراعيها يأبى هو الدخول من خلالها، غير مكترث لما يتسرّب من ماء من "قربة" العمر حتى يشربه الظمأ!إن ما فقدناه قبل مغادرتنا البوابة التي أغلقت للتو قابل للتعويض سوى الأيام التي تنطفئ يوماً بعد آخر، وكل ما لم نتحصّل عليه من السنة التي ولّت قد نصادفه في السنة الجديدة، أما ما لن يتهيأ لنا أبداً فلا يستحق أن ندلق لحظة من العمر في أثره، فإذا ما فقدنا شيئاً ما في مشوار العمر فمن الحماقة أن نضيع ما تبقى من العمر في محاولة العثور عليه مجدداً، ولو كان ما تبقى من ذلك العمر يوماً واحداً فقط، فربّ يومٍ كان غنيّا بما يكفي عمراً كاملاً.