أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما، قبل أيام، أن "داعش" قد جرى "احتواؤه" في العراق وسورية، لكن اعتداءات هذا التنظيم في باريس سرعان ما برهنت، بعيد ذلك، أنه يشكل خطراً على الغرب أكبر من أي وقت مضى، إذ ينفذ داعش استراتيجية عالمية للدفاع عن منطقته في العراق وسورية، وتعزيز المجموعات التابعة له في المناطق الأخرى ذات الأغلبية المسلمة، وتشجيع أو توجيه الاعتداءات الإرهابية المباشرة في العالم الأوسع، وقد صدّر "داعش" وحشيته وأساليبه العنيفة إلى مجموعات في ليبيا، ومصر، وأفغانستان، وغيرها، وها هو اليوم يستخدم مهارات تكتيكية اكتسبها من ساحات القتال في الشرق الأوسط ليثير رد فعل مناهضاً للإسلام سيؤدي إلى المزيد من عمليات التجنيد في المجتمعات الغربية، لذلك على الولايات المتحدة وحلفائها التفاعل بسرعة مع هذا الخطر.
ترمي استراتيجية داعش إلى إحداث شرخ في المجتمع الغربي لـ"تدمير المنطقة الرمادية"، كما يذكر هذا التنظيم في منشوراته، وتأمل هذه المجموعة أن تدفع الاعتداءات المخربة والمتكررة التي تُنفذ باسمها إلى مبالغة الحكومات الأوروبية في رد فعلها ضد المسلمين الأبرياء، ما يؤدي بالتالي إلى تنفير المجتمعات الإسلامية في القارة وتطرفها، ولا تشكل الفظائع في باريس سوى الأمثلة الأخيرة على هذه الحملة المتسارعة، فمنذ يناير، يقدّم المواطنون الأوروبيون، الذين يقاتلون مع داعش في العراق وسورية، دعماً على شبكة الانترنت ودعماً مادياً للعمليات المميتة في باريس، وكوبنهاغن، وقرب ليون في فرنسا، فضلاً عن محاولات الاعتداء في لندن، وبرشلونة، وقرب بروكسل. ويُرجَّح أن يكون مقاتلو داعش مسؤولين أيضاً عن تدمير الطائرة الروسية فوق سيناء، هذه الاعتداءات ليست عشوائية، ولا تهدف في المقام الأول إلى التأثير في سياسة الغرب تجاه الشرق الأوسط، بل تشكل جزءاً من حملة تنظيم قادر عسكرياً على حشد العملاء المتطرفين في أوروبا وتجنيد عملاء جدد.هذه الاستراتيجية صريحة، فقد أوضح داعش عقب اعتداءات يناير ضد مجلة شارلي إيبدو أن هذه الاعتداءات "تدفع الصليبيين بقوة إلى تدمير المناطق الرمادية هم بأنفسهم، فسرعان ما يجد المسلمون في الغرب أنفسهم واقفين أمام خيارين: إما أن يتخلوا عن دينهم أو ينتقلوا إلى داعش ليهربوا بالتالي من اضطهاد الحكومات الصليبية ومواطنيها". تعتبر هذه المجموعة أن هذا العدد الصغير من الاعتداءات قد يبدل على نحو جذري الطريقة التي يرى بها المجتمع الأوروبي المسلمين الأربعة والأربعين مليوناً فيه، وبالتالي الطريقة التي ينظر بها المسلمون الأوروبيون أنفسهم إلى ذاتهم، إذاً، من خلال أعمال الاستفزاز هذه، يسعى داعش إلى تمهيد الدرب أمام حرب ضروس مع الغرب.من المؤسف أن عناصر المجتمع الأوروبي تتفاعل بالطريقة التي يرغب فيها داعش، فقد ازدادت الأحزاب اليمينية المتطرفة قوة في عدد كبير من الدول الأوروبية، لذا يتوقع، مثلاً، أن تسيطر الجبهة الوطنية في فرنسا على الانتخابات المحلية في شمال فرنسا خلال فصل الشتاء، وقد أعلنت زعيمة هذه الجبهة مارين لوبان قبل أيام أن "مَن يقيمون علاقات مع الإسلام السياسي" سيكونون "أعداء فرنسا"، كذلك حصد حزب الشعب الدانماركي 21 في المئة من الأصوات في الانتخابات الوطنية في شهر يونيو، مقدماً برنامجاً وطنياً مناهضاً للإسلام، وعلى نحو مماثل، يزداد الديمقراطيون السويديون المناهضون للأجانب شعبية.لا شك أن اعتداءات باريس ستعزز رد الفعل المناهض للإسلام، كما أظهر المتظاهرون الذين حملوا لافتة كُتب عليها "اطردوا الإسلاميين" خلال أمسية لإضاءة الشموع حزناً في ليل بفرنسا. إذاً، لا داعي لأن يبتكر داعش القصص عن كره الغرب، إذ يستطيع بكل بساطة نشر صور السياسي الهولندي غيرت وايلدرز الذي ادعى أخيراً أنه "كلما تراجع الإسلام، تحسن الوضع"، كذلك شن مضرمو النيران عشرات الاعتداءات ضد طالبي اللجوء والملاجئ في ألمانيا هذه السنة، في حين استهدف المتطرفون مواطنين مسلمين في فرنسا، بالإضافة إلى ذلك، يولد تدفق مئات آلاف اللاجئين والمهاجرين المتواصل القادمين من الشرق الأوسط وإفريقيا بيئة مناسبة لحملة داعش.لا يبرر أي من هذه النشاطات المعادية للإسلام الفظائع التي يرتكبها داعش، ولا يُعتبر سبب هذه الفظائع أيضاً، فقد ترحب أوروبا باللاجئين بأذرع مفتوحة، ومع ذلك، سيرسل داعش مقاتليه ويجند السكان المحليين الساخطين، لكن رد الفعل المناهض للمسلمين الذي لا دخل له بعقيدة داعش أو أعماله يزيد الطين بلة، لذلك، على أوروبا أن تتفادى الشرك الذي ينصبه لها داعش بتركيز رد فعلها الناجم عن اعتداءات باريس وغيرها من الفظائع ضد المجرمين وداعميهم.لكن الأكثر إلحاحاً ضرورة أن تتقبل الولايات المتحدة وأوروبا واقع أن الحرب الطائفية المطولة في الشرق الأوسط تشكل خطراً واضحاً وحاضراً يهدد السلامة والأمن في الوطن، فهي تحشد الحروب في سورية والعراق المتطرفين من مختلف أرجاء العالم، فتشكل هذه حلبات يكتسب فيها الإرهابيون المهارات القتالية ويحملونها مباشرة إلى الغرب، لذلك من الضروري أن ينتهي قبولنا لهذه الصراعات، وعلينا أيضاً أن نتفادى إغراء دعم الحكام المستبدين، مثل بشار الأسد في سورية على أمل أن يتمكنوا من هزم عدو ساهموا في بروزه واحتواء صراع أشعلوه هم بأنفسهم.يجب أن تتحول اعتداءات باريس إلى نداء للتحرك بغية إنهاء الحروب التي تمزق الشرق الأوسط وتغرق العالم بلاجئين يائسين، فتشكل هذه دليلاً إضافياً على أننا لا نستطيع العيش بسلام في الوطن، في حين يتخبط الملايين وسط الحرب.هارلين غامبر
مقالات
شرَك «داعش» لأوروبا
20-11-2015