"اختلط الحابل بالنابل"، فآخر ما أتحفنا به الأميركيون، بل وصفعونا به على وجوهنا، هو أن رئيس أركان جيوشهم "راي أوديرنو" قبل أن "يخلع" ملابسه العسكرية ويذهب إلى حياة التقاعد والنسيان، لم يجد ما يودع به بلاد الرافدين، التي تغوص في الدماء حتى الركب، سوى إطلاق تصريحات، هي في الحقيقة ليست مفاجئة ولا غريبة، استبعد فيها عودة هذا البلد العربي إلى ما كان عليه، واعتبر أن تقسيمه "ربما يكون الحل الوحيد" لتسوية نزاعاته.

Ad

والمفترض أن أوديرنو، وهو أقدم قائد عسكري أميركي في هذه المنطقة، قبل أن يصفعنا على وجوهنا بهذه "البُشرى" المرعبة حقاً، يتذكر ويعترف بأن الولايات المتحدة بغزوها العراق في عام 2003 هي التي وضعته على بداية طريق التقسيم، وأن زميله بول بريمر، سيئ الصيت والسمعة، هو الذي وضع خرائط هذا التقسيم عندما وضع تلك المعادلة القائلة "إن هناك مهزومين ومنتصرين، وإن المنتصرين هم الموالون لإيران ومعهم الكرد العراقيون، والولايات المتحدة الأميركية بالطبع"، بينما المهزومون هم العرب السنّة الذين اعتبرهم كلهم صدام حسين، وأن صدام حسين هم.

وحقيقة أنه لا غرابة في أن يقول رئيس أركان الجيوش الأميركية "المغادر" هذا الذي قاله، فالسياسة التي اتبعتها بلاده في عهد جورج بوش (الابن)، ومنذ اللحظة الأولى لاحتلال العراق، كانت سياسة تقسيمية، فتغليب فئة عراقية على الأخرى ثبت أن هدفه كان دفع بلاد الرافدين في اتجاه التمزق، وعندما يبادر باراك أوباما إلى الانسحاب من هذا البلد انسحاباً كيفياً، بعد احتلال 8 أعوام، فإنه بالتأكيد كان يعرف أن النتيجة ستكون هذا الذي قاله راي أوديرنو من دون أن يرف له جفن.

وهنا فإنه كان على أوديرنو - قبل أن يصفعنا على وجوهنا بهذه البشرى السيئة المسيئة - أن يسأل نفسه عمن يا ترى سيكون المستفيد من تقسيم العراق. أليس المستفيد أولاً هو تنظيم "داعش" الإرهابي الذي يبدو أنه أصبح متجذراً في مناطق العرب السنة؟ ثم أليس المستفيد ثانياً هو إيران بتطلعاتها التمددية الإمبراطورية؟

إن المفترض أن رئيس هيئة أركان الجيوش الأميركية "المغادر"، والذاهب إلى التقاعد، بعد خدمة طويلة قضى شطراً رئيساً منها في المنطقة العربية، يعرف أن تشظي العراق وتقسيمه سيعني قيام دولة مذهبية في الجنوب في أفضل الأحوال ستكون تابعة للولي الفقيه في طهران، أما أسوأ الأحوال فهو أن هذا الجزء الغني بالنفط والمياه والقوى البشرية المنتجة سيصبح جزءاً من الإمبراطورية الفارسية التي يحلم أكثر الإيرانيين تطرفاً بأن "إيوان كسرى" في منطقته الحلة سيكون عاصمة لها، وعلى غرار ما كان عليه الوضع قبل معركة القادسية العظيمة.

ثم المفترض أن الولايات المتحدة ذات المصالح الإستراتيجية في منطقة الخليج تدرك وتعرف أن انقسام العراق وتقسيمه سيضع هذه المصالح الحيوية في "فم" الغول الفارسي، وكل هذا إضافة إلى أن خرائط منطقة الشرق الأوسط الحالية ستتغير تلقائياً، وعلى أساس اختفاء دول ودويلات وقيام دول ودويلات جديدة وبارتباطات غير الارتباطات الحالية.

ولهذا فإنه كان على هذا الجنرال الذي يشبه نعيقه نعيق غربان الشؤم أن يتريث ولو قليلاً قبل أن يقول ما قاله، وعليه أن يراجع أصحاب القرار الفعلي في واشنطن قبل أن يزف هذه البشرى البائسة إلى العراقيين والعرب وعموم أبناء هذه المنطقة الملتهبة!