متلازمة اليابان تأتي إلى الصين
سيناريو متطابق بين ما حدث مع الاقتصاد الياباني أواخر ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين وما يحدث الآن مع الصين، والضغوط واحدة من الولايات المتحدة، التي ضغطت على اليابان للمبالغة في تقدير الين بزعم أنها «تاجر غير عادل» فنشأت فقاعة وجاء الكساد، واليوم تفعل الشيء نفسه مع الصين عبر دفعها إلى رفع «الرنمينبي».
الآن تشهد الصين ما مرت به اليابان قبل جيل واحد، بتباطؤ النمو الاقتصادي بشكل ملحوظ بعد مطالبات من الولايات المتحدة بأن تحد من صادراتها، ففي أواخر ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن العشرين، كانت اليابان أيضاً موضع انتقاد من قِبَل الولايات المتحدة بزعم أنها «تاجر غير عادل» بسبب صادراتها التي ارتفعت إلى عنان السماء من قطاع التصنيع، حتى إن الولايات المتحدة أصدرت تهديداً صارماً واضحاً بتقييد الواردات اليابانية، ونجحت في دفع اليابان إلى تقدير سعر الين بما يتجاوز قيمته الحقيقية، الأمر الذي ساعد في دفع النمو الياباني إلى التوقف تماما.وربما يحدث هذا مرة أخرى الآن، بعد التباطؤ الملحوظ الذي أظهره نمو الصين تحت وطأة عملة مبالغ في تقدير قيمتها بضغط من الولايات المتحدة، ويبين الشكل رقم 1 سعر صرف الين الحقيقي (المعدل تبعاً للتضخم) في الفترة من عام 1964 (عندما أصبح الين قابلاً للتحويل على الحساب الجاري) إلى اليوم. ويدلل ارتفاع المؤشر على ارتفاع حقيقي في قيمة العملة، وهذا يعني أن الين أصبح أكثر تكلفة، نسبة إلى عملات أخرى بعد التصحيح، بما يعكس التغيرات النسبية في مستويات الأسعار.
كما نرى، ارتفعت قيمة الين تدريجياً في الستينيات والسبعينيات، كما هو متوقع، وذلك نظراً للنمو السريع واللحاق بالركب في تلك العقود، ثم جاءت الضغوط التجارية من الولايات المتحدة، ووافقت اليابان على تعديلات كبرى في العملات في منتصف الثمانينيات، بدءاً بما أسمي اتفاق بلازا في عام 1985.ارتفعت قيمة الين بشكل كبير كجزء من ذلك التدخل في عِدة بلدان، وبلغ ارتفاع القيمة الحقيقي ما يقرب من 50 في المئة في الفترة من 1984 إلى 1988. وكما يُظهِر الشكل رقم 2، تراجع نمو الصادرات اليابانية.ولفترة وجيزة، كان رواج الاستثمار المحلي يعوض عن تباطؤ الصادرات، ومع استمرار الين في الارتفاع، أغرق المال الأجنبي اليابان، ونشأت فقاعة مالية، وبحلول عام 1990، تحول رواج الاستثمار إلى كساد، وانفجرت فقاعة الأصول، وبدأت اليابان عشرين عاماً من الركود.وبرغم ضعف الأداء الاقتصادي المزمن في اليابان، استمرت الولايات المتحدة في الضغط على اليابان لحملها على الحفاظ على الين المبالغ في تقدير قيمته طيلة تلك الفترة، وخلال عقد التسعينيات والعقد الأول من القرن الحالي، سألت مراراً وتكراراً مسؤولين كباراً في وزارة المالية اليابانية لماذا سمحوا باستمرار ارتفاع قيمة الين الحقيقي وبالتالي إيقاف نمو الصادرات، وكانت الإجابة واحدة لا تتغير أبدا: كانت اليابان تخشى الانتقام التجاري من جانب الولايات المتحدة إذا أضعفت قيمة الين.ولم ينعكس اتجاه الارتفاع الحقيقي في قيمة الين بعض الشيء إلا بعد إطلاق بنك اليابان لبرنامج التيسير الكمي في إطار «اقتصاد آبي» في عام 2012، وكما هو متوقع، عادت بعض جماعات الضغط الصناعية في الولايات المتحدة إلى الشكوى مرة أخرى من أن اليابان تتلاعب بعملتها، حتى برغم أن انخفاض قيمة الين الحقيقي منذ عام 2012 لم يعكس الاتجاه السابق المتمثل في ارتفاع القيمة الحقيقي القاتل للنمو إلا بالكاد.والآن تواجه الصين خطر نفس تسلسل الأحداث، فقد دفعت صادراتها المزدهرة في منتصف العقد الأول من القرن الحالي المسؤولين في الولايات المتحدة إلى التهديد بالانتقام تجارياً ما لم تتخذ السلطات الصينية الخطوات اللازمة لتقييد الصادرات، ودفع قيمة الرنمينبي إلى الارتفاع، والتحول إلى «النمو القائم على الاستهلاك»، وهي نفس الرسالة التي وجهت إلى اليابان ذات يوم، وقد اشتد إصرار الولايات المتحدة على رفع قيمة الرنمينبي بعد اندلاع الأزمة المالية في عام 2008.وبوسعنا أن نرى النتائج حتى الوقت الحالي في الشكل رقم 3، الذي يوضع سعر الصرف الحقيقي في الصين منذ أصبح الرنمينبي قابلاً للتحويل في الحساب الجاري (عام 1996) حتى اليوم، وقد بدأت قيمة العملة تسجل ارتفاعاً حاداً في عام 2007، وكما كانت حال اليابان، تسبب ارتفاع القيمة في إشعال شرارة تدفقات رأس المال المزعزعة للاستقرار إلى الصين على افتراض أن الرنمينبي، مثله كمثل الين من قبله، لن يتجه إلا إلى الصعود. وكما حدث في اليابان، كان ارتفاع قيمة العملة مصحوباً بفقاعة مالية، ولكن كما يبين الشكل رقم 4، فإن ارتفاع القيمة الحقيقي أدى إلى انهيار سريع في نمو الصادرات السنوي في الصين (على مدى ثلاث سنوات)، من أكثر من 15 في المئة إلى أقل من 10 في المئة، والآن إلى الركود المالي أيضا.وفي الفترة من 2007 إلى 2014، ارتفع الرنمينبي بنسبة 32 في المئة من حيث القيمة الحقيقية المرجحة للتداول؛ وبحلول مايو 2015 (أحدث شهر للمؤشر المعني)، بلغ إجمالي ارتفاع قيمته نحو 40 في المئة، وقد عكس هذا جزئياً ارتفاع القيمة الاسمي في مقابل الدولار، فضلاً عن ارتفاع القيمة الفعلي في مقابل اليورو، والين، والوون الكوري، وعملات أخرى، مع ارتفاع قيمة الدولار في مقابلها جميعها.وتظل قيمة الرنمينبي مبالغاً في تقديرها، برغم انخفاض القيمة الاسمي المتواضع بنسبة 3 في المئة في أغسطس في مقابل الدولار القوي، ولابد من مقارنة ارتفاع القيمة الحقيقي للرنمينبي بالتحركات الأخيرة للين والوون، فاعتباراً من مايو 2015، ارتفعت قيمة الين الحقيقية بنحو 7 في المئة منذ يناير 2007، والوون بنحو 3 في المئة، الأمر الذي أدى بالتالي إلى تفاقم ضغوط التكلفة على صادرات الصين نسبة إلى منافسيها في آسيا.ويبدو خفض قيمة الرنمينبي إلى مستويات أدنى ضرورياً إذا كان للصين أن تنجح في تعزيز نموها الاقتصادي الضعيف وتجنب «فخ اليابان» في الأمد البعيد. ومن الأهمية بمكان أن نلاحظ أن قدراً كبيراً من صادرات الصين المتزايدة سوف يجد طريقه لا إلى الولايات المتحدة وأوروبا بل إلى إفريقيا وآسيا، وخاصة في هيئة معدات البنية الأساسية وغير ذلك من الآلات، ورغم هذا فإن الضغوط السياسية التي تفرضها الولايات المتحدة وأوروبا، والتي تجلت في الاتهامات بالتلاعب بالعملة والممارسات التجارية غير العادلة، فضلاً عن أفكار مضللة في الصين عن هيبة الرنمينبي، ربما تدفع الصين إلى مقاومة أي تصحيح حقيقي لسعر الصرف.بعد شهر من انخفاض قيمة الرنمينبي بنسبة 3 في المئة، علَّق الرئيس الصيني شي جين بينج، قائلاً: «نظراً للظروف الاقتصادية والمالية الحالية في الداخل والخارج، لا يوجد أساس لخفض القيمة المستدام للرنمينبي»، وفي الأسابيع الأخيرة، كان بنك الشعب الصيني يدافع عن تقدير قيمة العملة من خلال مبيعات النقد الأجنبي.في وقت سابق من هذا العام، عبرت مجلة الإيكونوميست عن الفِكر الغربي التقليدي: «لا تسمح لقيمة الرنمينبي بالانخفاض، لأربعة أسباب: خفض القيمة ربما يستفز حرب عملة في آسيا؛ والشركات الصينية غارقة في الديون المقومة بالدولار؛ وربما يؤدي خفض القيمة إلى تجدد الاتهامات من قِبَل الولايات المتحدة بالتلاعب بالعملة؛ وربما يؤدي خفض القيمة أيضاً إلى عكس اتجاه التقدم الذي حققته الصين في تحويل الرنمينبي إلى عملة احتياطية دولية.الواقع أن هذا التفكير المضلل هو على وجه التحديد ما أدى إلى جيل من تباطؤ النمو بلا داع في اليابان، وقد يحدث مرة أخرى في الصين. * جيفري دي. ساكس | Jeffrey Sachs ، أستاذ التنمية المستدامة، وأستاذ السياسات الصحية والإدارة، ومدير معهد الأرض في جامعة كولومبيا، والمستشار الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لشؤون الأهداف الإنمائية للألفية ـ «بروجيكت سينديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة».