تكشف الكاتبة والإعلامية الفلسطينية المقيمة في الأردن ليلى الأطرش في روايتها الجديدة {ترانيم الغواية} وبجرأتها المعتادة وجها للقدس لم يقترب منه أحد روائياً، كذلك حرصت على توظيف التاريخ في النص الروائي بصورة فنية دقيقة، محذرة من الوقوع في مصيدة التأريخ».

Ad

ما الذي دفعك لتناول مسألة الصراع العربي اليوناني على الموقع الروحي المتجسد في مرجعية الكنيسة الأرثوذكسية في روايتك الأخيرة «ترانيم الغواية»؟

لم أخطط، أو حتى أعلم، أن الصراع العربي الأرثوذكسي سيحتل جزءاً من الرواية، وأنا أعود إلى القدس لأكتب قصة حب عن إحدى نسائها، ولكن لأن شخصية أساسية في الرواية هي للخوري متري الحداد، العروبي الوطني، ابن القدس وتلميذ الشيخ عبدالحميد الزهراوي الحمصي أحد شهداء 16 مايو وعضو مجلس المبعوثان في تركيا، والذي قاوم التسلط اليوناني على الكنيسة الأرثوذكسية، ودعا إلى تعريبها مع شباب النادي العربي الأرثوذكسي، وجميعهم من العلمانيين ودعاة القومية العربية، تكشّف الوجه المسيحي للقدس ونضال الأرثوذكس العرب إلى جانب المسلمين ضد الأتراك والإنكليز، ثم مقاومة وعد بلفور لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.

 أردت كتابة رواية عن الحب وصداقات النساء بين الملل الثلاث في المدينة التي ولدت مقدسة، ولم تكن تدري أي منهن ما يخططه الحلفاء لها، وفي قراءاتي في التأريخ الاجتماعي للمدينة، أذهلني ذلك التعايش بين المسلمين وبين المسيحيين فيها، تعايش يومي فعلي لا شعارات براقة... والمفتي الحاج أمين الحسيني جنّب فلسطين كارثة طائفية حين أبلغ المسيحيين بأن ستة شباب مسلمين استأجرهم اليهود والإنكليز لاغتيال ستة شباب من القوميين العرب المسيحيين في آن، وفي مدن مختلفة من فلسطين ليؤججوا فتنة طائفية تقضي على الجميع، وقد ألقى القبض عليهم بنفسه وحاكمهم بما له من سلطة كزعيم للبلاد، هذا الجانب مسكوت عنه في الكتب التي تركز على قدسية المدينة، وعلى التآخي بين القيامة والأقصى في الصور والأفلام، لكن القدس بشر تحكمهم الرغبات ويستسلمون لأنواع الغواية، تتصارع عائلاتها على المناصب وتتملق من يحكم، ولهذا كان استهلال الرواية بهذا المقطع.

الصراع العربي اليوناني حول مرجعية الكنيسة جزء يسير في الرواية، ولكن يبدو أنني كشفت وجهاً للقدس لم يقترب منه أحد روائياً، ولم يذكر إلا في كتب مرجعية قليلة... وربما لأن الوجه المسيحي للمدينة غير معروف للقراء وجدوه مثيراً، لكنه ليس الرواية كلها، هي قصة حب عاصف وصداقات وسياسة في زمن التحولات الكبرى للقدس، سقوط الخلافة العثمانية ودخول الانتداب، وتداعيات وعد بلفور على حياة الناس، ومن خلال أربعة أجيال مقدسية، هاجر شبابها وبقيت منها عجوز تروي حكاية المدينة لقريبتها الشابة المخرجة السينمائية، والتي تحلم بتصوير فيلم عن القدس تاريخا وحاضرا.

وظفت التاريخ في الرواية، فكيف تسنى لك هذا؟

لعل الإشكالية الأصعب التي تواجه من يكتب رواية تتربع على عرش التاريخ، هو الحرص على البناء الفني للرواية من دون أن يقع في إغواء التاريخ المسكوت عنه أو ما يتكشف للمؤلف من خباياه في وثائق، وهو كثير ومغر، وإذا لم ينتبه الروائي لهذا وقع في مصيدة التأريخ، فالخيط رفيع بين المؤرخ وروائي يكتب التاريخ، ولكن الحفاظ على المسافة بينهما ضرورية جداً، لهذا خلطت التخييل بالواقع. تعايشت الشخصيات المتخيلة في الرواية مع شخصيات تاريخية حقيقية لإيهام القارئ بواقعيتها، لهذا اخترت أن تكون الرواية قصة مخرجة تعود إلى القدس لإنتاج فيلم يروي حكاية قريبتها العجوز وقصة حب عاصف ومحرم عاشتها في صباها. سهَّل لي هذا الإطار  تنويع أساليب السرد، ففي الفيلم يبرز المكان المقدسي ماضياً وحاضراً، والوثائق والصور ولقاء الشخصيات، وتفسيرات المؤرخ لبعض الوقائع التاريخية المسكوت عنها، وبهذا جعلت التاريخ جزءاً من البناء الفني للرواية لا هوامش لها.

إلى أي مدى تتفقين أو ترفضين مقولة أن {وعي المرأة النسوي جزء لا يتجزأ من وعيها السياسي}؟

تعني النسوية وعي المرأة بذاتها الإنسانية، وبحقوقها الأسرية والاجتماعية والقانونية، والسياسية. لكن بعض المقولات ربط وعي المرأة بالوعي السياسي فقط، وربط مطالبة المرأة وممارستها حقوقها الإنسانية الأساسية باتجاهات سياسية، خصوصاً اليسارية، والدليل أن غالبية القوانين المطبّقة في الوطن العربي حول الحقوق والواجبات للفرد هي قوانين وضعية، القانون الدستوري والتجاري والجنائي والدولي وغيرها.  القانون الوحيد الذي لم يفلت من قبضة «الشريعة» هو قانون الأحوال الشخصية، فكثرت الفتاوى والاجتهادات ممن هب ودب حول حقوق المرأة لتظل النساء تحت سطوة الإحساس بالدونية وفوقية الرجل، وروّج كثيرون أن تحرر المرأة مرتبط بالعلمانية واليسار السياسي ومن تنتمي إليه.

تتصف كتابات الأنثى في الفترة الأخيرة بالجرأة فهل للجرأة حدود لديك وما رأيك بتصنيف الأدب؟

 

في زمان سقط فيه الرقيب وتعددت وسائط الاتصال والنشر خارج الأوطان، لا مجال إلا للخوض في المسكوت عنه الذي قيدته الرقابة ومنعت نشره سابقا، سواء أكان كتابة عن الذات أو المجتمع وما يرتبط بهما من قضايا وإشكالات إنسانية يعتبر تناولها جرأة كبيرة.

 جرأة الكتابة في الثالوث المحرّم، الدين والسياسة والجنس، ظلت مقيدة وممنوعة وتخضع للرقابة بأشكالها كافة، خصوصاً الرقابة الذاتية تفادياً للصدام، سواء للكاتب أو الكاتبة، وكان لا بد من التحايل على الرقابة لتمريرها، كأن تدور الرواية في مكان متخيل أو زمان تاريخي لتحمل الإسقاطات التي يريدها المؤلف، ولا بد من الاعتراف أن الرقابة الدينية والاجتماعية كانت، وما زالت، أكثر خطورة وقسوة على الإبداع برمته من الرقابة السياسية التي سقطت في عصر الفضاء.

تحايلت في روايتي {امرأة للفصول الخمسة} 1990 على منعها في دول الخليج بأن تخيلت مكانا تدور فيه الأحداث له صفات وتاريخ الخليج اسمه {بر قيس} وهو مكون من حرف واحد من كل دولة، بحرين إمارات قطر كويت سعودية} أو {بر قيس} بمعنى ديار قيس بن الملوّح، {مجنون ليلى} وهي شبه الجزيرة العربية. وفي {صهيل المسافات} 1999 كانت غابرة هي اليمن، بينما {جديدة} هي دول النفط.

 لكن في {مرافئ الوهم} 2005 حين نشرت عن دار الآداب كانت كاملة، وحين نشرت في فلسطين راقبها الناشر وحذف أجزاء تتحدث عن تكون الإرهاب في أفغانستان ومتاجرة طالبان بالحشيش وسيطرتها على كابول، ورؤية المرأة من خلال قصة فريق تلفزيوني يذهب إلى لندن لمقابلة صاحب صحيفة خطفته جماعات إرهابية وحاولت نسف صحيفته، ثم عادت وأطلقت سراحه، فتقابل كل من المعدّة والمقدّمة قصة حبها وماضيها، وهي الرواية العربية الأولى التي طرحت قضية المحلل بعد الطلاق البائن بينونة كبرى من وجهة نظر المرأة في حقها الشرعي بالقبول أو الرفض.

يسكن ناقد داخل كل مبدع، فإلى أي مدى تنتقدين نفسك؟

لعلي أصعب ناقد لنفسي... ليس في الرواية فحسب، بل في كل ما أنتجت... انطبق هذا على العمل الصحافي والإعلامي ثم الأدبي، كما أهتم بكل ما يكتبه النقاد عن أعمالي.

لديك فلسفة خاصة في اختيار عناوين أعمالك سواء القصصية أو الروائية، فما أبعاد هذه الفلسفة؟

ليست فلسفة بل ربما قدرة على الاختيار. أحياناً، يفرض العنوان نفسه حتى قبل اكتمال الرواية وأثناء التفكير والتحضير لها. حدث هذا في «وتشرق غربا» و{امرأة للفصول الخمسة» و{صهيل المسافات»، و{ليلتان وظل امرأة»، و{نساء على المفارق». وأحياناً، لا أتمكن من العنوان المناسب إلا بعد الانتهاء من الرواية كما في «رغبات ذاك الخريف» و{ترانيم الغواية» أو أغيّر العنوان لسبب ما كما في «أبناء الريح}. بالنسبة إلى  «أبناء السماء»، أرسل لي صديق مخطوطة روايته لأقرأها فوجدت أننا اخترنا  العنوان نفسه في توارد خواطر عجيب.