هناك في الدماغ العربي تركيب كيميائي غريب لم يصل العلماء إلى تحليل مكوناته بعد، ربما لم يكن أي دماغ عربي معروضاً على طاولة السيدة "ساندرا ويلسون" التي اشتهرت بتشريح أكبر عدد من الأدمغة، وأهمها كان دماغ العالم الفذ ألبرت أينشتاين، وإن كان قد وصلها وقد فقد بعض أجزائه.

Ad

يستطيع هذا الدماغ العربي ممارسة أكثر من ثنائية متناقضة في آن واحد، يستطيع أن يؤمن إيماناً خالصاً في النهار ويكفر كفراً خالصاً في المساء، يستطيع أن يكون أكثر زهداً في الحياة وهو تحت وطأة الجوع، وأكثر بطراً حين يسمع صوت المؤذن ليعلن انتهاء فترة الزهد.

هذا الدماغ المحير، والذي من المفترض أنه تحول من تركيب نسيجي إلى عقل نشأ بعيداً عن طبيعة العصر الذي يعيشه، يمارس طقوسه بتعددية غريبة، له صوت خاص حين يختلي بك وصوت آخر حين يبتعد عنك، له قدرته العجيبة على أن يكون منافقاً متملقاً متى لزم الأمر، وأن يكون صريحاً جميلاً بعد ثوانٍ فقط من انتفاء سبب النفاق.

هذا العقل المحير يعيش جاهليته بذات المرح والخفة التي يعيش بها حضارة غيره، ويمتلك قدرة عجيبة على الانفصال عن ذاته وتقمص الدور الذي توحي به ظروفه المحيطة به، هو يتعلم كل العبارات التي ترتقي بالإنسان ويؤمن بها ويتعلم كل العبارات التي تقتل الإنسان ويؤمن بها. وهو الأكثر قدرة على ابتكار حيل الموت وأحابيله، وهو أيضاً الأكثر قدرة على ممارسة الحياة دون أن يفصل بينهما زمن طويل بالضرورة.

هو المؤمن بالآخر والكافر به، هو المنادي بالحرية والعاشق للقمع، هو الإسلامي والليبرالي والشيوعي والقومي والتقدمي في فترة تمتد من الظهيرة حتى غروب الشمس فقط، وهو الفوقي والمتعجرف والنازي والمتعصب وذو الدم الأزرق والأبيض والرمادي في نفس الفترة، هو الزعيم اليوم والمجرم غداً، وهو البطل بالأمس والهارب اليوم، هو المنفق والمرابي، هو المنادي بالحرية وصديق السجان ونديمه وحارس مفاتيح سجنه.

ليس لأحد أن يفك شفرة هذا العقل العربي ولا أن يفهم تناقضاته، هو الذي يمتلك المقدرة أن يأكل بنهم وهو يشاهد صور القتلى وأشلاء الأجساد العربية تتناثر من حوله، وهو الذي ينفق عشرات أضعاف حاجته وينظر بألم إلى طفل من أبناء جلدته يحمل لافتة "أنا جائع".

لا أعرف صوراً من صور الحياة التي يعيشها هذا العقل البائس لا تنم عن تناقض يثير الاشمئزاز، لا أعرف صوراً للرياء والنفاق والتقلب يمكن حصرها كما هو الحال في عقلنا البائس، لم يعد الشاعر يشعر بالخجل من قصيدة امتدح بها الطاغية مساء أمس وقصيدة يمتدح بها الثوار في الصباح الباكر، ولا يشعر المثقف والمفكر، هذا إن وجد، بالخجل وهو يقوم بتقبيل حذاء الرئيس الجديد فقط لأنه رئيس جديد، ويحتفظ في الدرج بقبل أخرى للرئيس القادم.

 نكاد نفقد الأمل في المستقبل القريب في إصلاح هذا العقل وترميمه وإعادة بنائه، ذلك بالتأكيد يحتاج إلى مقدرة على النسف وأن نبدأ من جديد، أعتقد أن ذلك هو ما يحدث حالياً رغماً عنا.