أجرت مؤسسة "الرأي العام" مسحاً هذا الشهر طرحت خلاله سؤالين على الروس: "ما الحدث الأبرز في روسيا هذه السنة؟" و"ما الحدث الأبرز في العالم هذه السنة؟".
من اللافت للنظر أن أكثر من 40% واجهوا صعوبة في الإجابة عن كلا السؤالين، لكن الجريمة السياسية الأكثر وحشية في تاريخ روسيا المعاصرة، اغتيال والدي، لم ترد حتى في الردود، فلم تكد محطات التلفزة الخاضعة لسيطرة الحكومة تأتي على ذكرها، إلا خلال الأيام الأولى بعد الاغتيال، حين راح المعلقون يتحدثون عنه بلهجة ازدراء.لكن المشكلة لا تكمن في صمت وسائل الدعاية الرسمية التابعة للكرملين فحسب، بل أيضاً في حالة المجتمع الروسي، فقد كشف استطلاع للرأي أجراه مركز ليفادا في شهر مارس الماضي أن ثلث الروس لا يبالون بموت والدي، ويشكل هذا خدراً أخلاقياً يتجلى من خلال مشاعر المواطنين الروس، الذين يرددون: "لا تعنيني هذه المسألة" و"لا تؤثر في".لا يظهر هذا الموقف من خلال اللامبالاة المتفشية فحسب، بل أيضاً من خلال عجز الناس عن تمييز حتى العلاقات السببية الأكثر وضوحاً، ومن الطبيعي ألا يدرك بعض الروس عواقب ضم القرم السلبية المتوسطة والطويلة الأمد، ولكن لم يكن من الصعب توقع ارتفاع أسعار المستهلك نتيجة حظر موسكو المنتجات الغذائية الأوكرانية والضريبة المرتفعة المفروضة على الشاحنات التي تعبر الطرق الفدرالية السريعة.يسلب النظام السياسي الذي بناه بوتين الشعب الروسي القدرة على التفكير، والتحليل، وطرح الأسئلة، واتخاذ المواقف، أو تذكر الماضي.للناس ذاكرة قصيرة، ولا شك أن هذا يسهّل حياة بوتين والمقربين منه، الذين يحاولون دوماً تشويه الوقائع. على سبيل المثال، يدعون أولاً أن ما من جنود روس في القرم وشرق أوكرانيا، ومن ثم يقرون بوجودهم، ويعدون بعد ذلك بألا يرفعوا الضرائب والرسوم، ومن ثم يفرضون ضريبة على الشاحنات الكبيرة، إذاً يشكل النسيان ميلاً بشرياً مفيداً، وتحاول دعاية الكرملين المتلفزة استغلاله إلى أبعد الحدود.يوضح هذا الواقع لمَ لا يملك القادة سمعة شخصية ولمَ لا يسعى الشعب إلى محاسبتهم، لعل اللامبالاة الاجتماعية وعدم الاهتمام العام بالسياسة يشكلان آلية دفاع وطريقة يحاول الناس من خلالها التعاطي مع فيض أكاذيب السلطات وخطواتها العدائية، فلا يستطيع أحد أن يميز الحقيقة، لذلك من الأفضل ألا نبحث عنها أساساً.تبدو كل السياسات في روسيا ظرفية ومتقلبة كأسعار النفط، حتى السياسيون والمسؤولون الأوفياء لا ينجحون دوماً في السير على الخطى المرسومة لهم بالتحديد. على سبيل المثال من الممتع مشاهدة المخرج السينمائي الشهير ومعجب بوتين الأكبر نيكيتا ميخالوف وهو يثور غضباً لحضوع برنامجه الوطني على التلفزيون التابع للدولة للرقابة.تناضل السلطات والنخبة الحاكمة للبقاء، ولا شك أن هذه الغاية تبرر كل الوسائل، بما فيها مناورة إبقاء التوتر العسكري عالياً دوماً، ونتيجة لذلك تنتقل روسيا تدريجياً من القيم الإنسانية إلى علاقة مواجهة مع العالم، ولكن لعل هذه الكلمات لا تعبر عن الواقع بقوة كافية: تتجه روسيا على الأرجح نحو لامبالاة تامة، لكن الحرب تتحول إلى الإطار العام لكل مسائل الحياة.يسأل الصحافيون الروس غالباً لمَ أناضل في سبيل تحقيق نزيه وعادل في جريمة قتل والدي، لكني أعتبر كلمات هذا السؤال بحد ذاتها مثيرة للاشمئزاز؛ لأنها تُظهر قيم القرون الوسطى التي يتبعها الحاكم الأعلى في روسيا: لا أحد يفهم أنني لست الوحيدة التي تحتاج إلى تحقيق مماثل، إنما كل الروس إن كنا نريد للبلد أن يمضي قدماً.علينا أن نخوض معركة طويلة وطاحنة دفاعاً عن حقوق الإنسان، فإن تخلينا بكل بساطة عن هذا الصراع ورضينا بواقع أن إنساناً ما في روسيا يستطيع بكل سهولة قتل شخصية عامة بارزة، أو رجل دولة وقائد المعارضة، من دون أن ينال العقاب، فعلينا أن نقبل أيضاً أن الأمر عينه قد يحدث لأي منا.بات أعضاء المعارضة اليوم أكثر عرضة للخطر من أي وقت مضى، حيث ألاحظ موقف ازدراء بمجموعة صغيرة من الناس تواصل السعي في سبيل الديمقراطية في روسيا، ونتيجة لذلك أسأل نفسي غالباً: "ماذا يقدمون؟"، ولكن تخيل ما قد يحدث لو أن هذه المجموعة الصغيرة اختفت. مَن سيجري عندئذٍ التحقيقات المناهضة للفساد؟ ومَن سيشارك في الانتخابات الصورية؟ ومَن سيخقق في انتهاكات أعضاء مجلس الدوما، أو يقدم الدعم للسجناء السياسيين؟ لا أحد بالتأكيد.لطالما واجه أبي موقف الازدراء هذا ممن تصرفوا كما لو أنهم ينظرون إليه من عليائهم، فتعرض للقتل بسبب وجهات نظره، ومواقفه، وعدم استعداده للتصرف بلامبالاة وعدم اكتراث، وفجأة أوجعنا غيابه.لم تعِد روسيا بقيادة بوتين إحياء القيم الروحية، كما تحاول محطات التلفزة الحكومية إقناعنا، بل أدت إلى انحلال روسيا الأخلاقي، وما دام الروس يتعاطون مع كل مشكلة من منظار ما إذا كانت ستؤثر فيهم شخصياً، فلا يمكن لهذا البلد إلا أن يسير في اتجاه واحد: إلى الوراء.*زانا نيمتسوفا
مقالات
انحلال روسيا الأخلاقي
01-01-2016