اختلف المحللون والمعلقون في تحليلهم لعزوف الناخبين عن المشاركة في المرحلة الأولى للانتخابات البرلمانية في مصر، وتراجع نسبة المشاركة فيها عن الانتخابات البرلمانية التي جرت في عام 2011، عقب ثورة 25 يناير، فمن قائل بأنها تمثل مقاطعة لهذه الانتخابات التي تعكس فقدان الأمل لدى الجماهير في دور مجلس النواب القادم أو الحكومة الحالية أو الحكومة القادمة في إحداث أي تغيير، والملل الذي أصاب الجماهير بعد ستة استفتاءات وانتخابات جرت منذ قامت هذه الثورة، ومن قائل بغياب الرموز البرلمانية، وغياب أي معلومات عن المرشحين ومؤهلاتهم وبرامجهم، وغياب أي دور للجنة العليا للانتخابات في توضيح ذلك على موقعها في البريد الإلكتروني أو عبر بياناتها التي كان يمكن أن يضمها كتيب كدليل لكل ناخب، ومنهم من ألقى الوم على الأحزاب الكرتونية التي تعتبر في البلاد الأخرى الركيزة الأساسية للعملية الديمقراطية وجوهرها الانتخابات البرلمانية، حيث يقع على عاتق الأحزاب عبء تسخين المعارك الانتخابية، وشرح برامجها ووضع حلولها للقضايا العاجلة والأزمات التي تمر بها البلاد.
ومن المحللين من قال، إن ثورة 1919 قدمت للأمة الاستقلال والدستور اللذين كانت تحلم بهما، وإن ثورة 23 يوليو قدمت للفلاحين، وهم السواد الأعظم من الشعب، قدمت لهم الإصلاح الزراعي بعد أقل من شهرين من قيامها، وأعدت برنامجا للتصنيع وبناء السد العالي لتزويد كل مصانع مصر وقراها بالطاقة الكهربائية، وعندما رفض البنك الدولي تمويل المشروع عام 1956 بإيعاز من أميركا، كان الرد عليه تأميم قناة السويس في يوليو 1956، أي بعد أربع سنوات من قيامها، واستطاعت أن تحشد الشعب لمواجهة التحديات التي واجهت الثورة، بل استطاعت في باندونغ سنة 1954 أن تحشد معها دول عدم الانحياز، وأن أكثر من أربع سنوات مضت على ثورة 25 يناير دون أن تقدم شيئا للطبقة الفقيرة التي ازدادت فقرا بعد شعارات رفعتها "عيش... حرية... عدالة اجتماعية"، والإحصاءات تؤكد أن أكثر من 40 مليون مصري يعيشون تحت خط الفقر، وأن الشباب الذين قاموا بهذه الثورة، وهم الكتلة التصويتية الأكبر، قد غابوا عن المشهد الانتخابي بسبب موقف النظام منهم، والذي أدار ظهره لهم، بعد ثورتين حملوا مشاعلها وخضبوا أرض مصر بدمائهم من أجل تحقيق أهدافها، عيش وحرية وعدالة اجتماعية، فلم يحصدوا منها سوى التهميش والإقصاء واتهامهم بالعمالة والتضييق عليهم، وتقديم بعضهم للمحاكمات الجنائية، وغياب الرؤية الاجتماعية في سياسات الحكومة المتعاقبة بعد ثورة 30 يونيو، وهناك من يروجون لمؤامرة على الثورة، لإجهاضها ولعودة نظام مبارك ورموزه من رجال الأعمال والمال السياسي تحت عباءة ثورية وشرعية، في ظل نظام انتخابي إقصائي وغير عادل، ودوائر تتيح للمال السياسي وللعصبية النصيب الأكبر في مقاعد البرلمان القادم الذي ستغيب فيه المعارضة، خصوصاً أن النظام قد بدأ يلوح بتعديل الدستور، للحد من صلاحيات البرلمان القادم التي تحد من صلاحيات الرئيس وتسمح بعزله.تراجع لا يعكس شعبية الرئيسوأتفق تماما مع ما قاله الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل في لقائه الأخير على قناة cbc مع المذيعة لميس الحديدي، من أن المشاركة الضعيفة في هذه الانتخابات لا تعكس شعبية الرئيس، ولا تؤثر عليها، إلا أنني أرى أن هذه الأرقام الهزيلة في المشاركة ستدعم مواقف الرئيس في مواجهة أي أغلبية متمردة في البرلمان القادم، أمام الأغلبية الساحقة من الأصوات التي حصل عليها الرئيس في الانتخابات الرئاسية، وإن كنت ما زلت مصراً على ما قلته على صفحات الجريدة في عددها الصادر في 14 يونيو 2015 في مقالي تحت عنوان "الرئيس في عامه الثاني بين الشرعية الدولية والوطنية والعدالة الاجتماعية ومنظومة الفساد": بأن الرئيس في حاجة إلى تثبيت شرعيته الوطنية حتى لا تتآكل شعبيته، بسبب غياب رؤية ومنظومة واضحة للعدالة الاجتماعية وغياب سياسة واضحة وآليات حقيقية لتحقيقها، فضلاً عن غياب سياسة واضحة ومنظومة كاملة وتشريعات وآليات قادرة على مكافحة الفساد.فوضع منظومة لتحقيق العدالة الاجتماعية ووضع منظومة أخرى لمحاربة الفساد، هما المحوران الأساسيان اللذان يجب أن يضطلع بهما الرئيس في عامه الثاني لتثبيت شرعيته الوطنية، حتى لا تتآكل رغم كل الإنجازات التي حققها على المستوى الاقتصادي، وعلى المستوى الأمني في حربه ضد الإرهاب، أمام الضغوط الشديدة التي يتعرض لها المواطن من ارتفاع مخيف للأسعار، والذي أصبحت تنوء به حتى الطبقة المتوسطة التي أصبحت بدورها تتآكل لتزيد أعداد الملايين تحت خط الفقر.فمن يتصدون لمشروعات التنمية في النظام الحاكم الآن هم الذين كانوا يتصدون لهذه المشروعات، وبالآليات ذاتها، في نظام مبارك، وهي عدم تدخل الدولة في تحقيق هذه العدالة التي ستتحقق- لا محالة وفقاً لزعمهم- بزيادة الاستثمارات.العائلات والقبائل والعشائر سيدة الموقفوأعتقد أن النتائج التي أسفرت عنها المرحلة الأولى من هذه الانتخابات قد أكدت ما أعلنته من قبل في مقالي المنشور على هذه الصفحة في عدد الجريدة الصادر في 31 أغسطس من العام الماضي تحت عنوان "خارطة الطريق والانتخابات البرلمانية القادمة في مصر"، من أن أخطر ما يتهدد الائتلافات والتحالفات بين الأحزاب أو بين القوى الوطنية هو العائلات والقبائل والعشائر التي أفرزت نواب الحزب الوطني الحاكم السابق، والقادرة على إفراز نواب جدد، على شاكلة النواب السابقين في هذه الحزب الذين أثروا على حساب الشعب وكوّنوا الثروات الطائلة، وهذه العائلات والقبائل والعشائر قادرة على إفراز نواب جدد من التيار الإسلامي، فهي تتكون من خليط من الأطياف والألوان، وإن غايتها من إفراز هؤلاء وأولئك هي إثبات وجودها واستمرار نفوذها على الساحة السياسية لحماية مكاسبها غير المشروعة.وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.
مقالات
ما قل ودل: تراجع المشاركة في الانتخابات المصرية... دلالاته وأسبابه
01-11-2015