لا يملك أكراد العراق سوى أن يكونوا صادقين حين يرددون أنهم لن ينخرطوا في أي محور إقليمي داخل الاستقطاب الشيعي- السني المستعر في المنطقة. لكن دخول تركيا الحرب ضد «داعش» وحزب العمال الكردستاني التركي «القريب من إيران» يكشف حجم صعوبة أن تكون محايداً في عملية انهدام الحدود من هضبة زاغروس الفارسية جنوباً، حتى تخوم الأناضول وصولاً إلى شواطئ سورية ولبنان.

Ad

والأكراد العراقيون صادقون في رغبتهم بالحياد، ذلك أنهم منخرطون في مذهب سني لكنه مطعّم بصوفية تاريخية، وينتمي زعماؤهم السياسيون مثل مسعود البرزاني وجلال الطالباني، إلى طرق صوفية معروفة، وهم أبعد ما يكونون عن التشدد الديني. أما ثقافياً فهم قريبون من الحضارة الفارسية، وينحدرون من العرق الهندو- أوروبي الإيراني، ويتحدثون باللغة القديمة ذات الأصل الزارادشتي في إيران وكردستان. وحتى داخل العراق منذ الأربعينيات، ظل «المهمشون» الأكراد والشيعة يعملون معاً في الأحزاب اليسارية، ثم حصلوا على فتوى شهيرة من المرجع الشيعي الكبير محسن الحكيم، تحرم على العراقيين المشاركة في أي حرب ضد الأكراد في الخمسينيات.

ولا يخفي ساسة عراقيون إعجابهم بقدرة الأكراد على الاحتفاظ، في أحلك الأوقات، بعلاقات طيبة مع النجف وطهران، ومع الرياض وأنقرة، وأيضاً مع واشنطن.

لكن القبطان الكردي يجرب للمرة الأولى، الذهاب بزورقه المتواضع نحو المياه العميقة، ويقول إنه لم يذهب نحو الأمواج بقدر ما ترتفع هي فتطغى على مجاله الحيوي.

ويأتي قرار تركيا توجيه ضربات جوية لـ«داعش» وأيضاً لحزب العمال الكردستاني المعارض لأنقرة «بي كي كي»، كعامل انقسام بين أربيل والسليمانية، وهما قطبا السياسة الكردية في شمال العراق. فالسليمانية، معقل جلال الطالباني الرئيس العراقي السابق، هي الأقرب جغرافياً وسياسياً إلى إيران، وإلى «بي كي كي» المتحالف مع طهران وبشار الأسد، والذي يقوده نخبة من الأكراد العلويين وعلى رأسهم الزعيم المعتقل عبدالله أوجلان.

أما مسعود البرزاني، فهو أقرب إلى أنقرة، رغم أنه لا يفرط بعلاقته مع إيران، وسبق أن تحدث عن «سخاء طهران» في مساعدتها العسكرية ضد «داعش». لكنه يطالب بالحذر من تحول العلاقة إلى انخراط في سياسة داعمة لإيران والأسد. ويعارض تحمس «بي كي كي» للدفاع عن النظام السوري. كما يشعر بخيبة من فشل وساطاته الطويلة بين أوجلان وأنقرة، لإقرار مشروع سلام كان واعداً حتى قبل سنة، ثم جاءت التطورات الإقليمية والداخلية التركية لتفشله تقريباً.

وصباح السبت الماضي، أعلن رئيس وزراء تركيا أحمد داود أوغلو أنه تحدث مع البرزاني، وحصل منه على «تأييد» لحملته ضد «داعش» و «بي كي كي». وسرعان ما أثار التصريح رد فعل واسعاً داخل كردستان، إلى درجة أن مكتب البرزاني أعلن أن الاتصال الهاتفي استمر نحو ساعة، وتضمن بصراحة طلباً كردياً بوقف الضربات لمقرات «بي كي كي»، خصوصاً أن قوات الأخير تساهم بفعالية في حماية أربيل المحاذية للموصل، وتلعب دوراً مهماً في (كوباني) وأماكن استراتيجية أخرى.

ومجمل ما حصل نهار السبت، يلقي ضوءاً على تصادم جديد بين تركيا وإيران قرب المرتفعات الكردية، من جبل قنديل على حدود إيران، امتداداً إلى البحر المتوسط. وبغض النظر عما يعنيه هذا في الجغرافيا السياسية والطائفية، فإنه يمثل اختباراً لدبلوماسية الأكراد التي كانت تثير الإعجاب، وهي تواجه مطبات لم تختبرها بهذا المستوى على الإطلاق.