لولا ميوعة الموقف الأميركي وتردده بالنسبة للأزمة السورية، التي كان بالإمكان معالجتها قبل أن تصبح على ما هي عليه الآن "فالج لا تعالج"، لما وصلت عربدة الروس إلى هذا المستوى الذي يجب أن يُذكِّر باراك أوباما وإدارته بصراع المعسكرات وبالحرب الباردة التي بلغت ذروتها في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، والتي هناك مؤشرات على أنها "عائدة"، ولكن بصورٍ وأساليب مختلفة عن الصور والأساليب السابقة!

Ad

الآن أصبح الموقف الروسي واضحاً ومكشوفاً، فموسكو أصبحت لها، ليس قاعدة واحدة بل قواعد على السواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، ولعل ما يجب أن يفهمه ويدرك أبعاده أوباما ووزير خارجيته جون كيري هو أن إجراء روسيا المناورات التي قررت إجراءها في "المياه الدافئة" والتي مهما حاول البعض التقليل من أهمية وخطورة هذا التطور، يعني أن بوتين قد انتقل من مرحلة المناورات إلى مرحلة الهجوم، وأنه من غير المستبعد أن يتجرأ ويضع إصبعه في عين أميركا خلال فترة مقبلة قريبة.

ما الذي يمكن أن يفعله الرئيس الأميركي باراك أوباما، ردّاً على تحديات فلاديمير بوتين المتصاعدة بعدما كشف أوراقه مبكراً وأثبت بالأدلة القاطعة، إنْ في سورية وإنْ في العراق وإنْ في هذه المنطقة كلها، أن الولايات المتحدة لم تعد معنية بالشرق الأوسط وأنَّ رهانها أصبح على الشرق الأقصى وأنها بناءً على ذلك بدأت مرحلة الانكفاء على الذات التي بدأت في حقيقة الأمر مع بداية عهد هذه الإدارة التي تخلت عن أصدقائها قبل أن تتمكن من تحييد أعدائها!

 كان الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان أطلق تصريحاً مدويّاً في بدايات ولايته الأولى، أي في بدايات ثمانينيات القرن الماضي، قال فيه: "وداعاً للشيوعية"، وحقيقةً فإن كثيرين لم يصدقوه واعتبروا أن هذا مجرد نزوة عابرة لرئيس لايزال متأثراً بمهنته السابقة كممثل سينمائي، لكن وخلافاً لهؤلاء "وللكثيرين" فقد ثبت أنه كان يتحدث بالاستناد إلى معلومات، ولذا فقد انهار الاتحاد السوفياتي بعد نحو عشرة أعوام فقط، ولم يعد لما يسمى بالمنظومة الشيوعية والاشتراكية أي وجود، اللهم باستثناء الصين التي أصبحت لها تجربتها الوطنية الخالصة وكوريا الشمالية التي لا يمكن وصفها إلا بأنها تقف على رجْل واحدة.

معروف أن روسيا تعاني أوضاعاً اقتصادية سيئة، وأنها متورطة في مشكلة أوكرانيا التي تشكل استنزافاً فعلياً وحقيقياً لها وبخاصة في المجال الاقتصادي، ثم إنه معروف أن اكتشافات الغاز الهائلة ستشكل تحدّياً فعلياً لها على اعتبار أن هذه الاكتشافات ستصبح منافساً لما تصدره من هذه الطاقة لأوروبا، وبخاصة لألمانيا، لكن ومع ذلك ورغم ذلك، فإنه لابد من الأخذ في الاعتبار أن السياسة، كما هي الطبيعة، تكره الفراغ، وأنه عندما تتراجع الولايات المتحدة في هذه المنطقة فإن البديل الجاهز، كما هو واضح، هو الروس لا غيرهم!

كان هناك من بقي يقول، منذ بداية انفجار الأزمة السورية، إن ترْك التحالف الروسي – الإيراني يفعل في هذا البلد المحوري المؤثر ما يريده ستكون عواقبه وخيمة، وحقيقةً فإن ضعف الإدارة الأميركية (الديمقراطية) وتردد رئيسها باراك أوباما، قد أغريا الإيرانيين والروس بالتمادي كثيراً، وجعلهم ينتقلون من حالة الدفاع السابقة إلى حالة الهجوم الحالية، ومن التواجد العسكري الفاعل والمؤثر إلى إقامة القواعد العسكرية الاستراتيجية... ويقيناً فإن النتائج، نتائج كل هذا، ستكون كارثية إن لم يبادر الأميركيون إلى انعطافة سريعة بمشاركة بعض الأوروبيين، إن لم يكن بالإمكان كلهم، ومشاركة كل أو بعض الدول العربية المعنية!