الرواية بين السيرة الذاتية والتخييل الذاتي (3-1)

نشر في 12-08-2015
آخر تحديث 12-08-2015 | 00:01
 طالب الرفاعي القراءة بدء الخطو:

حين غدت القراءة متعة حياتي الأهم وشغل فكري، استوقفتني وأثّرت بي كثيراً قدرة الكاتب الروسي "فيدرو دوستويفسكي-  Fyodor Dostoyevsky" (1821-1881) الهائلة على الغوص في خفايا النفس البشرية. كما أدهشتني ولم تزل تدهشني الطريقة التي كتب فيها الكاتب الأميركي "وليم فوكنر- William Faulkner" (1897-1962) روايته الساحرة "الصخب والعنف- The Sound and fury" ولقد كانت رواية "الجحيم الأبدي- The Angel of Darkness" للروائي الأرجنتيني "ارنستو ساباتو – Ernesto Sabato" (1911-2011) هي الرواية التي لفتت انتباهي إلى إمكانية وجود المؤلف بسيرة حياته الشخصية الحقيقية، لتكون جزءاً أساسياً من الحدث الروائي.

روايات دوستويفسكي علّمتني أهمية قراءة خفايا النفس البشرية وقادتني لقراءة أعمال كثيرة على رأسها كتب "سيغموند فرويد- Sigmund Freud"، و"جان بول سارتر- Jean-Paul Sartre"، ومع روايات فوكنر توقفت أمام الكتابة بـ"تيار الوعي– stream of consciousness"، وبواسطة ساباتو رأيت الشكل الفني الأجمل لكتابة السيرة الذاتية، ضمن مدرسة "التخييل الذاتي – Auto Fiction".

وظيفة الفن الاجتماعية:

كنت ولم أزل مقتنعا بوظيفة الفن الاجتماعية، وأن ما ينشره الكاتب يُعدّ مسؤولية اجتماعية إنسانية ينهض بها. وأن تلك الكتابات ستجد صداها في ذائقة ووعي المتلقي بدرجة أو بأخرى. ولقد قرأت مراراً كتاب "ضرورة الفن- The Necessity of Art" للكاتب "أرنست فيشر- Ernst Fischer" وكان ولم يزل يقدم لي شرحاً مقنعاً عن أهمية وضرورة تواجد الفن في الحياة الإنسانية، وأن الفن سيبقى دائماً مصاحباً لمسيرة الإنسان، لأنه يقدم للإنسان توازناً يعينه على الحياة.

ولأن اضطراب وقلق الإنسان سيبقى، فلن تنتفي أبداً حاجته للفن، وهذا ما يؤكد خلود الأعمال الإبداعية ذات المنحى الإنساني، وقدرة مختلف الأجيال على تذوقها والاستمتاع بها وفهمها بطريقة عصرية تتناسب ولحظة عيشهم.

في جميع قصصي القصيرة، حاولت نثر أجزاء من سيرة حياتي وقناعاتي الذاتية، بأشكال أدبية متنوعة، دون أن يكون بينها شكل السيرة الذاتية، أو كتابة التخييل الذاتي، لكني حين بدأت الكتابة الروائية عام 1995، ولأنني أرى أن الرواية هي كتابة التاريخ الأصدق للحظة التاريخية التي يمرّ بها أي مجتمع من المجمعات، وأن حياة المؤلف الحقيقية بوعيه الفني وظرفه الاجتماعي والاقتصادي وآرائه السياسية، هي جزء مهم من تاريخ شعبه وبلده، فلقد استخدمت صيغة التخييل الذاتي، لتسجيل وتوثيق أجزاء من سيرة حياتي الحقيقية باسمي الصريح كجزء من الحبكة الروائية، في جميع رواياتي باستثناء رواية "رائحة البحر". الأمر مغامرة كتابية حياتية، لكني مؤمن بأن عيش الحياة مقترن بالمخاطرة وليس أقل من خوضها.

البدء بكتابة أي رواية بالنسبة لأي كاتب في العالم وأياً كانت خبرته الروائية السابقة، هي بمنزلة خوض مغامرة جديدة غير مأمونة المخاطر ولا مضمونة النتائج. تجربة قائمة بذاتها، تشكّل تحدياً متجدداً للكاتب. تستند إلى وعي الكاتب الحياتي المتجدد بناء على مجمل المتغيرات التي تحيط به، ومنعطفات تجارب حياته، وأخيراً تغيّر قناعاته في البناء الروائي الأجمل. وهذا ما يجعل الكاتب مطالباً أمام نفسه وأمام جمهور القرّاء بتقديم عمل جديد وممتع، على مستوى الشكل والمضمون. لذا يحرص دائماً على تطوير خبرته الذاتية في الكتابة، مثلما يجتهد لابتكار أشكال إبداعية جديدة تثري وتؤكد تجربته الروائية. يستطيع من خلالها، وفي كل مرة، أخذ القارئ إلى رحلة حياة فنية، يشتبك فيها الواقع والخيال، وتكون مقنعة ومؤثرة، وقادرة على أن تبقى عالقة في ذاكرة القارئ، لذا يحرص الكاتب المبدع على أن تضيف كل رواية جديدة ينشرها رصيداً إيجابياً لرصيده لدى القرّاء، وهذا ما يجعله مسكوناً بهاجس تطوير تجربته الروائية.

back to top