ما قل ودل: لكي لا تغيب الحقائق في جريمة حولي
بعد عزوفه عن الخوض في قضية مشاجرة حولي الأخيرة انتظاراً لما ستسفر عنه التحقيقات، قرر الكاتب أن يتناولها، مدفوعاً في ذلك بتصريح صدر عن مسؤول كبير في «الداخلية» بشأن إبعاد كل من شارك في تلك المشاجرة، وبيان العلاقات العامة بالوزارة الذي صب الزيت على النار بتحميل الوافدين المسؤولية كاملة، إضافة إلى حكم لـ"جنايات الكويت" حمّلت فيه الدولة ومؤسساتها المجتمعية مسؤولية الوقاية من الجرائم.
لا تمثل وجه الكويت الحضاريجريمة حولي التي راح ضحيتها مواطن مصري، دهسه أحد المواطنين بسيارته عدة مرات، كما دهس مصرياً آخر ومواطناً يرقدان الآن في أحد المستشفيات، بالرغم من بشاعتها وأن من ارتكبها لم يتجاوز عمره الثانية والعشرين، وقد ارتكبها على مرأى ومسمع من تجمع للأهالي من مواطنين ووافدين، غصت بحلوقهم مشاعر الغضب والحزن والمرارة، وقد صعقت نفوسهم تحت وطأة هذه الجريمة فأصابهم الذهول، فهي جريمة لا تمثل وجه الكويت الحضاري، ولهذا كنت عازفاً عن الخوض فيها، انتظاراً لما ستسفر عنه التحقيقات، والتي ستأخذ مجراها إلى ساحة العدالة.
إلا أن ما ألزمني بتناولها، تصريح من مسؤول كبير في وزارة الداخلية بإبعاد كل من شارك في المشاجرة التي انتهت بهذه الجريمة البشعة، وبيان نشرته الصحف اليومية منسوب إلى إدارة العلاقات العامة والإعلام بالوزارة، أغرقه أصحابه بتفاصيل هي موكولة لرجال المباحث، التي لن تألو جهداً في الكشف عنها، فصب البيان الزيت على النار، عندما حمّل الوافدين المسؤولية كاملة، فانطلقت التغريدات على النت تصب جام غضبها عليهم، إلا من بعض الأصوات العاقلة والمنصفة من بعض المواطنين، كما ألزمني بتناول الموضوع حكم أصدرته محكمة جنايات الكويت في اليوم التالي لارتكاب هذه الجريمة، حملت فيه الدولة ومؤسساتها المجتمعية مسؤولية الوقاية من الجرائم.وهو ما ألزمني بتناول الموضوعات الآتية في سياق البحث عن الحقيقة وحماية العدالة.التهديد بالإبعاد وحماية العدالةوفي سياق البحث عن الظروف والملابسات التي أحاطت بهذه الجريمة النكراء، والتي لن يألو رجال الشرطة والمباحث جهداً في كشف كل الحقائق المتعلقة بها، يصدر تصريح من مسؤول كبير، بأنه سيتم إبعاد كل من تثبت مشاركته بأي شكل من الأشكال في هذه المشاجرة، وهو تصريح سيقف حائلاً بين سلطات التحقيق وبلوغ الحقيقة، عندما يحجم شهود الواقعة من الوافدين عن التقدم للإدلاء بشهاداتهم خوفاً ووجلاً من ترحيلهم وإبعادهم، بتهمة اشتراكهم في المشاجرة، وقد قال رسول الله، عليه الصلاة والسلام: "أَكْرِمُوا الشُّهُودَ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَسْتَخْرِجُ بِهِمُ الْحُقُوقَ، وَيَدْفَعُ بِهِمُ الظُّلْمَ".ولهذا جاء التهديد بالإبعاد والترحيل، خارج سياق البحث عن الحقيقة في هذه الجريمة النكراء، بما يخل بحسن سير العدالة.قطع الأعناق ولا قطع الأرزاقويطل علينا هذا المانشيت في ذات الصحيفة التي لوحت بإبعاد وترحيل كل من ثبت اشتراكه في هذه المشاجرة، على لسان رئيس نقابة البترول، احتجاجاً على إنهاء خدمات المواطنين من القطاع النفطي، قائلاً: "إننا لن نسمح بقطع أرزاق صغار العاملين تحت أي ذريعة كانت، باستثناء التعدي على المال العام المتعمد".بيان وزارة الداخلية وتنشر الصحف بياناً منسوباً إلى إدارة العلاقات العامة والإعلام بوزارة الداخلية، الذي استبق الأحداث، دون أن ينتظر التحريات التي تجريها المباحث الجنائية، حيث ذكر بالحرف الواحد، كما جاء في صفحات "الجريدة" أنها مشاجرة عادية داخل المجمع تطورت إلى تشابك بالأيدي، أدى في ما بعد إلى قيام وافدين اثنين ممن اشتركوا في المشاجرة برفقة أشخاص آخرين باللحاق بالمواطنين إلى خارج المجمع بنية التعدي عليهم بالضرب، بعد حصول المشاجرة في ما بينهم، مما أدى إلى قيام مواطن بدهس وافدين ومواطن، مما أسفر عن وفاة مصري وإصابة آخر بكسر في الحوض، وإصابة أحد المواطنين.ومع تقديرٍ دون بخس للدور الإعلامي الذي تقوم به هذه الإدارة، كإحدى الآليات التي تستخدمها وزارة الداخلية لخلق رأي عام مستنير يتحمل مسؤوليته في حماية الأمن القومي، لتقطع السبيل على محاولة استغلال الحوادث للتهويل منها وإشاعة القلق والرعب في نفوس الأهالي، فتقوم هذه الإدارة بوضعها في إطارها الصحيح، فإن البيان الذي نشر منسوباً إلى هذه الإدارة لم يضع الحقائق كاملة في هذا الإطار، عندما وصف ما وقع في المحل الذي كان يعمل فيه القتيل بأنه مشاجرة عادية، وتشابك بالأيدي أدى فيما بعد إلى ملاحقة المواطنين بنية التعدي عليهم، الأمر الذي أدى أيضاً إلى قيام المواطن بدهس وافدين ومواطن.قنوات «التنافر» الاجتماعيوالذي يبدو لكل ذي بصيرة أن البيان من حيث أراد أن يهدئ من روع الرأي العام المتعطش إلى معرفة الحقيقة وكل ما يجري، قد صب الزيت على النار، باتهامه الوافدين بأنهم أساس المشكلة، وقد صور الأحداث كما لو كان القتيل يحمل وزملاؤه نفوساً أمارة بالسوء يلمع الشر في أسرتها وينضح الدم من عروقها، ويطل الغدر من عيونها، ويتفجر منهم الإثم رماداً وناراً، عندما لاحقوا المواطنين إلى خارج المجمع بنية التعدي عليهم بالضرب، مما أدى إلى قيام المواطن بدهس اثنين من الوافدين ومواطن.فانطلقت قنوات التواصل الاجتماعي على الإنترنت التي أصبحت تستحق أن يطلق عليها قنوات التنافر الاجتماعي، بعد أن أصابها فيروس العداء السرطاني للآخر، فراح كل طرف من الطرفين يكيل الاتهامات للآخر، ويشيع البغضاء في المجتمع. وفي سياق العداء للآخر ظهر على قنوات "التنافر الاجتماعي" من يطالب بالقصاص ويحرض على أبنائنا الطلبة الكويتيين في مصر، يقول المولى عز وجل: "ولا تزر وازرة وزر أخرى".وفي هذا السياق أيضاً، بدا خلط الأوراق واضحاً في بعض التغريدات التي راحت تثير قضية السيدة السعودية وابنتها الكويتية اللتين قتلتا في صعيد مصر في صحراء المنيا على أيدي ثلاثة جناة مصريين ألقوا بجثتيهما في إحدى آبار المياه الجوفية، وأن أحد الجناة كان يعمل لدى المجني عليها السعودية.مسؤولية الدولة والمؤسسات المجتمعيةويطل علينا الحكم الذي أصدرته محكمة الجنايات، برئاسة المستشار محمد جعفر يوم الاثنين الماضي، بحبس خمسة متهمين 10 سنوات مع الشغل والنفاذ، بعد إدانتهم بتمويل تنظيم داعش الإرهابي في العراق وسورية، مع وضع ثلاثة متهمين تحت مراقبة الشرطة مدة خمس سنوات، وبراءة اثنين، حيث أهابت المحكمة بالمؤسسات الأمنية والإعلامية والتربوية تعزيز أواصر التعاون فيما بينها والعمل بهدى الشريعة الإسلامية في ضوء تعاليمها النيرة وقيمها السمحة الداعية إلى الخير والصلاح والوئام بهدف تحصين المجتمع ضد الجريمة والإرهاب بالقيم الأخلاقية التربوية.كما أهابت المحكمة في رسالتها إلى الحكومة ومؤسسات الدولة بوجوب الإسهام في توجيه المواطن والمقيم نحو السلوك السليم القائم على قيم الأخلاق والاستقامة واحترام القوانين والأنظمة وتحصينه ضد كل أشكال الانحراف وترسيخ القناعة بأن الوقاية من الجريمة والإرهاب ليست مسؤولية موكوله إلى صروح العدالة الجنائية والأجهزة الأمنية فحسب، بل مسؤولية تتقاسمها مختلف المؤسسات المجتمعية.وهي المسؤولية التي سوف أتناولها في مقالي القادم، إن كان للعمر بقية.