إننا أنتجنا كماً كبيراً من الأعمال الدرامية خلال رمضان، وغيره من الشهور، لكن تلك الأعمال لا تخدم أهدافاً قومية وإنسانية وأخلاقية ووطنية متفقا عليها، كما أنها تروج لكثير من أنماط الخلل والإسفاف في حياتنا، ولا تساعدنا على تحقيق أهداف أخرى تتعلق بالترويج السياحي، أو تسويق دولنا كمجتمعات جاذبة، أو تكريس صورة المواطن العربي على نحو إيجابي.
يجب ألا تكون هناك وصاية أو قيود على العملية الإبداعية، كما أن تقييم الإبداع يجب أن ينصرف إلى الجوانب الفنية والجمالية دون سواها، ومع ذلك فإن تجاهل أن الدراما صناعة تتفاعل ضمن سياق وطني وقومي واجتماعي محدد يعد خطأ كبيراً.إذا كنت من هؤلاء الذين يشاهدون الأفلام الأميركية بانتظام، فأرجو أن تتذكر كم مرة شاهدت فيلماً يُظهر بطلاً أميركياً يحارب أشراراً من أجل إنقاذ العالم أو مساعدة مظلومين؟أرجو أن تتذكر كم مرة شاهدت فيلماً يظهر جنوداً أميركيين نبلاء متفانين يتحلون بأفضل القيم، ويقاتلون الأعداء السيئين؛ سواء كان هؤلاء الأعداء ألماناً أو روساً أو يابانيين أو صوماليين أو عراقيين أو إرهابيين إسلاميين؟لا شك أنك شاهدت كثيراً من تلك الأفلام، ومهما كانت درجة نضجك وثقافتك واعتيادك على مشاهدة الدراما وتذوقها وتحليلها ونقدها، فبالتأكيد أنك تأثرت ببعض ما شاهدته، وربما يكون قد تسلل إلى وعيك ووجدانك، ومن المرجح أنه بات عاملاً من عوامل إدراكك للشخصية الأميركية.دعك من السينما الأميركية، وحاول أن تتذكر كم مرة شاهدت عملاً فنياً هندياً يتحدث عن التعدد والتنوع والوحدة الوطنية في هذا البلد الكبير؟ وكم مرة شاهدت فيلماً سينمائياً هندياً يتعلق بفكرة محاربة الفساد، وانتصار الخير على الشر مهما كانت الصعاب والمحن؟تعطينا الدراما التركية التي غزت شاشاتنا أخيراً مثلاً واضحاً في هذا الصدد؛ إذ تتسم تلك الدراما بتركيز كبير على عناصر البيئة الطبيعية، والديكورات المبهرة، ويمكن اعتبار معظم المسلسلات التركية التي نشاهدها في المنطقة العربية، بشكل أو بآخر، عملاً من أعمال الترويج السياحي.سيمكننا أن نضرب العديد من الأمثال؛ سواء من الولايات المتحدة أو الهند أو تركيا، أو المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا، ستفيد تلك الأمثال كلها بما يلي:أولاً: أن معظم تلك الدول تعرف درجة عالية من حرية الفكر والإبداع.ثانياً: أن معظم تلك الدول تحقق مكاسب مادية من صناعة الدراما، سواء كانت تلفزيونية أو سينمائية، عبر إيرادات العرض الداخلي في الأسواق المحلية، أو من خلال التصدير إلى الخارج.ثالثاً: تخدم المنتجات الدرامية (التلفزيونية والسينمائية)، في مجموعها العام، أهدافاً معينة، ترى كل دولة من تلك الدول أنها جديرة بالعمل من أجل تحقيقها، وهذه الأهداف تصب في تحقيق المصلحة الوطنية العليا، وتتم خدمتها من خلال أنماط أداء احترافية غير زاعقة وغالباً ما تكون غير مباشرة.رابعاً: تتحول المنتجات الدرامية بشقيها التلفزيوني والسينمائي في أحيان عديدة إلى وسيلة للتعريف بالشخصية الوطنية وبالدولة وبالشعب مُصدّر الدراما، وبالتالي فإن تركيز تلك الأعمال على ملامح شخصية معينة، وتأكيدها على قيم محددة، وانتصارها لأفكار بعينها يسهم في خلق الصورة الذهنية للشخصية الوطنية والدولة والشعب.خامساً: الأعمال الفنية الجيدة هي إحدى أهم وسائل القوة الناعمة، التي يمكن من خلالها تحقيق مصالح الدول، والتأثير في محيطها الإقليمي والدولي، وتعزيز المكانة وزيادة النفوذ.سادساً: من خلال السينما والدراما التلفزيونية، التي يتم التخطيط لها بشكل جيد، يمكن الانتصار لقيم وطنية معينة وتكريسها وترويجها، ويمكن استبعاد قيم سلبية وغير مواتية، وهو أمر يساهم في تحقيق التغيير الثقافي والاجتماعي الإيجابي من جانب، ويعزز قدرة الدولة على الحفاظ على التماسك الاجتماعي والسلم الأهلي من جانب آخر.الآن وقد انتهى ماراثون دراما رمضان السنوي الكبير، سأطلب منك أن تجري هذا التمرين على مجمل ما شاهدته من أعمال، وهو تمرين بسيط جداً لأنه على شكل أسئلة محددة ومباشرة؛ على النحو التالي:س: ما الصورة التي يمكن أن يستخلصها مواطن عالمي لا يعرف شيئاً عن العالم العربي من خلاصة مشاهدته للمسلسلات العربية المعروضة في رمضان؟س: هل تساعد تلك الصورة في تعزيز مكانة الدول العربية ونفوذها وزيادة جاذبيتها، أم تؤدي إلى العكس؟س: هل تتفق تلك الصورة مع الواقع أم تفرط في التركيز على جوانبه الأكثر سوءاً وبذاءة؟س: ما القيم الوطنية والروحية والإنسانية التي تعززها تلك الأعمال، وما القيم التي تتجاهلها أو تعصف بها؟س: ما الذي كان يسيطر على أذهان صانعي تلك الأعمال الدرامية خلال صنعها باستثناء تحقيق أكبر قدر ممكن من الرواج والكسب المادي؟س: هل تعتقد أن عدد المسلسلات المنتج في رمضان مناسب لطاقة المشاهد؟ وهل تعتقد أن تلك الأعمال جديرة بحجم ما يخصص لها من موارد وجهود وأنشطة إعلان وترويج؟س: هل يمكن أن تكون هناك أعمال درامية ممتعة ولائقة في آن واحد، مثل بعض الأعمال الكلاسيكية والحديثة التي تركت علامات فارقة بسبب التزامها معايير إنتاج مميزة، وانطلاقها من أفكار إبداعية جادة؟س: هل تتصاعد قدرتنا على المنافسة في سوق الدراما التلفزيونية الإقليمية والعالمية، أم نبقى نخاطب أنفسنا دون أن نتمكن من غزو الأسواق التركية والهندية والإيرانية وبعض البلدان الأخرى في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية على سبيل المثال؟س: هل لدينا عقل عام كبير ومسؤول، في كل بلد من بلداننا العربية، يحاول أن يصوغ سياسة رشيدة للأداء الدرامي التلفزيوني أو السينمائي، عبر سياسات تحفيز أو تعزيز أو إنتاج أو تقييم ناجعة، بما يخدم أهدافنا الوطنية والروحية والإنسانية والفنية المتفق عليها؟إن مجمل الإجابات عن هذه الأسئلة سيوضح إلى حد كبير حجم الأزمة الفنية التي يعانيها المجتمع العربي؛ إذ سيظهر أننا بالفعل أنتجنا كماً كبيراً من الأعمال الدرامية خلال شهر رمضان، وغيره من الشهور، لكن تلك الأعمال لا تخدم أهدافاً قومية وإنسانية وأخلاقية ووطنية متفقا عليها، كما أنها تروج لكثير من أنماط الخلل والإسفاف في حياتنا، ولا تساعدنا على تحقيق أهداف أخرى تتعلق بالترويج السياحي، أو تسويق دولنا كمجتمعات جاذبة، أو تكريس صورة المواطن العربي على نحو إيجابي.وكل عام وأنتم بخير.* كاتب مصري
مقالات
مسلسلات رمضان والفرص الضائعة
19-07-2015