تحظى كلمة «مراجعات» بمكانة جيدة في الوسط السياسي والفكري المصري، لأنها ببساطة ارتبطت بعبارة «المراجعات الفكرية»، وهي المراجعات التي أجرتها جماعات الإسلام السياسي، التي حملت السلاح ضد الدولة في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، وتم بمقتضاها نبذ العنف، والتأصيل للعمل السياسي السلمي، والتركيز على مفاهيم الدعوة.

Ad

كانت جماعات الإسلام السياسي قد اتخذت منحى عنيفاً في نشاطها خلال فترة التسعينيات الفائتة في ظل دولة مبارك، وقد وصل ذلك العنف إلى ذروته في  حادث الأقصر، حين قتل مسلحون تكفيريون بدم بارد نحو 58 سائحاً أجنبياً في ساحة معبد، في العام 1997.

قبل حادث الأقصر، كانت تلك الجماعات قد قتلت كثيرين من أفراد الشرطة والجيش والمدنيين، بل قتلت الرئيس الأسبق السادات، كما استطاعت أيضاً أن تهاجم مقار حكومية وتحتلها، ورتبت كذلك لانقلابات، لكن الأمن أجهضها.

استطاعت الدولة أن تستوعب هذا العنف، عبر إجراءات أمنية صارمة، عززها غياب المراجعة القانونية والمساءلة الشعبية، وخفوت المحاسبة والاهتمام الدوليين، في ظل مساندة كبيرة للنظام في مواجهة هذا الهجوم الإرهابي.

وحين كان قادة تلك الجماعات، أو من بقي منهم حياً، في سجون مبارك، انطلقت فكرة «المراجعات»، وتصدى لها «علماء» وقياديون من الذين أسسوا تلك التنظيمات، أو نظّروا لمنهجها، وألهموها بذرائع العنف والمواجهة، وأقنعوها بتكفير النظام والمجتمع.

على أي حال، فقد ربحت الدولة من «المراجعات»، كما خرج بعض القادة و»الجهاديين» من السجون، بعدما تبنوا المقاربات الفكرية الجديدة، التي تكرس الاقتراب السلمي، والارتكاز الدعوي، وتحترم الممارسة السياسية، وتعتبر سلطة الدولة، وترفض التكفير، وتنخرط في المجتمع، وفق القواعد والقوانين المرعية.

ما الذي يجعلنا نتذكر قضية «المراجعات الفكرية للإسلاميين» في مصر الآن؟

يبدو أننا في حاجة إلى «مراجعات إخوانية» في تلك المرحلة بالذات، ويبدو أن ذرائع مثل تلك المراجعات متوافرة، وأن فرص نجاحها كبيرة.

لقد حلت الذكرى الثانية لفض تجمعي «رابعة» و»النهضة» يوم 14 من شهر أغسطس الجاري، وهي الذكرى التي انقسم الاحتفاء «الإخواني» و»الإسلاموي» بها إلى تيارين رئيسين.

واصل التيار الأول بين «الإخوان» وحلفائهم أنشطة التعبئة والدعاية السوداء، عبر استعراض «تفاصيل المأساة»، وصولاً إلى «تكريس المظلومية»، استناداً إلى مفهوم مفاده أن «عقيدة قتل توافرت لدى شياطين الانقلاب، أدت إلى سقوط آلاف من الشهداء السلميين المناضلين من أجل الإسلام والديمقراطية، وأن الأرض لن تشرب دماء هؤلاء».

أما التيار الثاني بين «الإخوان» و»الإسلامويين» المتحالفين معهم، فقد كان أكثر نضجاً واحتراماً لعقول الجمهور؛ إذ تحدث عن «أخطاء قيادات (الإخوان)» في إدارة الاعتصامين، و»افتقاد الرؤية والاستراتيجية خلال الاعتصامين»، و»السماح بوجود أسلحة داخل الاعتصامين».

يتصل هذا الاقتراب الجديد بمحاولة إعادة تقييم المشهد في «رابعة» و»النهضة» من زاوية النقد الذاتي، لرصد بعض القصور لدى «الإخوان» أنفسهم، لكن جانباً من أصحاب التفكير النقدي والمتنور بين هؤلاء «الإخوان» و»الإسلامويين» يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، ويسأل السؤال الأكثر أهمية: «وماذا بعد؟».

لذلك، فقد امتلأت وسائل الإعلام المصرية بأنباء وتحليلات عديدة خلال الأيام الفائتة عن «مبادرة مصالحة» يستعد رئيس حزب «الوسط»، المنشق عن «الإخوان»، أبو العلا ماضي لطرحها على السلطة والرأي العام، ولم يؤكد ماضي طرح مثل تلك المبادرة بشكل رسمي، لكن تحليلات عديدة ربطت بين الإفراج غير المتوقع عنه وطرحها.

ليس ذلك هو أول حديث عن المصالحة بين «الإخوان» وحلفائهم من جانب والدولة والمجتمع من جانب آخر، إذ إن إشارات عديدة صدرت عن الطرف «الإسلاموي» وبعض المستقلين في هذا الصدد.

فإذا كان النظام يجيد لعبة السياسة فالأرجح أن مصالحة من هذا النوع يمكن أن تكون مفيدة له؛ إذ سيتم تخفيف الاحتقان المجتمعي، وتقليل الضغوط الأمنية، وتحسين الصورة الخارجية، وعزل «إرهاب داعش» جغرافياً وفكرياً ولوجستياً، بما يسهل التعامل معه وإنهاؤه، لكن النظام لن يكون قادراً على قبول مثل تلك المصالحة، أو التفاعل معها، في ظل ما يبديه الرأي العام والإعلام وبعض المؤسسات المهمة من معارضة كبيرة لها، خصوصاً مع توالي وقوع الحوادث الإرهابية، وزيادة درجة الشحن والتحريض من المنصات «الإخوانية»، وبعض الدول التي تستضيف تلك المنصات أو تمولها.

يشعر قطاع كبير من الجمهور بأن حياته مستهدفة بسبب «الإخوان»، ولا يفرق قطاع آخر بين ما يصدر عن أوساط «الإخوان» من مباركة وتأييد للعنف والإرهاب، وبين ما يرتكبه تنظيم آخر من عمليات على الأرض، مثل تنظيم «داعش» في سيناء.

وبشكل أو آخر، فإن كثيراً من المشكلات التي يواجهها المصريون البسطاء تحديداً الآن يتم تحميل المسؤولية عنها لـ»الإخوان» مباشرة، خصوصاً أن التنظيم لا يتوقف عن معايرة المصريين، أو الإعراب عن كراهيته لهم، والتشفي فيهم، والدعاء عليهم، والتحريض على القتل والحرق، فضلاً عن ازدراء الرموز الوطنية، وعلى رأسها العلم الوطني، واستهداف الرموز الدينية وفي مقدمتها «الأزهر الشريف»، عبر منظومة دعائية تعمل بالطريقة «الغوبلزية»، وتتضمن وسائل إعلام، ومنابر مساجد، وأنشطة تواصل اجتماعي، ودعاة نافذين، ودولا داعمة، وفعاليات ميدانية على الأرض.

في 14 أغسطس الجاري نشرت «بي بي سي العربية» تقريراً مهماً بعنوان «في ذكراها الثانية: هل أخطأ (الإخوان) في رابعة؟». سيمكنني التأكيد أن تقريراً مثل هذا لم يكن لينشر في الذكرى الأولى قبل نحو عام، والسبب ببساطة أن السؤال آنذاك كان عصياً على الطرح، ولأن الأوضاع تغيرت فقد كان بإمكان هذا التقرير أن ينقل عن شاب «إخواني» سؤاله الملح: «وماذا بعد؟»، مع تحميله قدراً من المسؤولية عن «مأساة رابعة» لقادة «الإخوان».

المراجعات بدأت بالفعل بين أوساط «الإخوان» وحلفائهم؛ بل بعضهم قدّم ما يشبه النقد الذاتي الحاد أو «الاعتذار» عن وقائع جرت سابقاً، وبعضهم الآخر كشف عن أن «رابعة» كانت تستهدف «التفاوض السياسي» أو حتى «تفكيك الجيش الوطني».

حان وقت «المراجعة» إذاً، والكرة في ملعب «الإخوان»، وحين تأتي «المراجعات»، فإن الجمهور سيكون أكثر مطاوعة لفكرة «المصالحة»، والنظام سيريد ذلك ويحرص عليه.

* كاتب مصري