أثناء حديثي مع الأشقاء الجزائريين، الذين التقيتهم في فترة إقامتي في مدينة قسنطينة كضيف على «أيام الفيلم العربي المتوج» فوجئت، وصدمت، لما قالوا لي إن فيلم «الوهراني» (الجزائر/ فرنسا 2014)، الذي كتبه وأخرجه وقام ببطولته إلياس سالم، تعرض لاضطهاد، وصل إلى حد الحصار الذي أدى إلى التجاهل والإهمال، نتيجة هجوم شنه داعية، ودعمته، في ما بعد، صحيفة يومية ذات اتجاهات دينية، اتهما «الوهراني» بأنه {فيلم شيطاني كاذب ومُزوّر للتاريخ} أساء إلى الثورة الجزائرية، و«طعن في شرف المجاهدين والشهداء}، بحجة أنه صور الثورة بأنها اندلعت في الحانات، ووصف المجاهدين والثوار بأنهم عاقرو خمر في البارات. وطال الهجوم المخرج، الذي اتهم بأنه فرنسي، وعاب على وزارة الثقافة أنها مولت الفيلم!

Ad

لم تقف وزارة الثقافة موقف الصامت أو العاجز، بل دافعت عن {الوهراني}، بكل ما أوتيت من قوة، واتسم المخرج بالفطنة، والحصافة، عندما رفض الانسياق وراء الصحف التي حاولت جره للهجوم على {الداعية} و{الصحيفة}، وقال {لكل شخص الحق في أن يقرأ الفيلم من وجهة نظره الخاصة}!

انتابتني الدهشة، وأنا أتابع ما قاله الأشقاء، لأنني شاهدت {الوهراني}، وكتبت عن مخرجه إلياس سالم، الذي ولد في الجزائر في العام 1973، وحصل على شهادة في الأدب الحديث من جامعة السوربون، وقيل إنه حصل على الجنسية الفرنسية. وسجلت،  بتقدير شديد، كيف نجح {الوهراني} في مخاطبة المشاعر الإنسانية، وكيف تعمّد تقديم أبطال ثورة تحرير الجزائر وهم بشر من لحم ودم، حملوا أرواحهم على أكفهم يوم أن كان الوطن في حاجة إليهم، ولم يفرطوا في البحث عن وسيلة تعينهم على مواجهة المستعمر الفرنسي من دون أن يستخدموها إلى أن نجحوا في طرده. وبعد الاستقلال، في زمن ما بعد الحرب، عاشوا حياتهم، ولم يفوتهم ترميم جراحهم (اكتشف البطل أنه مُطالب برعاية طفل لقيط أنجبته زوجته من جندي فرنسي اغتصبها في غيابه)، وفي سياق النظرة الواقعية نفسها رصد المخرج والكاتب إلياس سالم التحولات التي طرأت على {الثوار} فاحتل بعضهم مناصب قيادية في الدولة، واهتم بتأمين مصالحه الخاصة، بينما سعى البعض الآخر إلى تعويض ما فاته والفوز بنصيب في الغنيمة، وفي واحد من أجرأ مشاهد الفيلم اختار {جعفر} مقر القائد الفرنسي ليصبح منزلاً له!

ارتكب {الوهراني} خطأ جسيماً، في ما يبدو، عندما صوّر تناقضات أبطاله - المجاهدين - ولم يقدمهم في مسوح {الملائكة} المنزهين عن البشر، كما اعتادت الدراما التاريخية أو أعمال السير الذاتية تصويرهم، وكان حاسماً عندما قال إن الحرب لم تنته، وإن الجيل الجديد مُطالب بانتزاع الحرية، وإن اختلف مغتصبها، كما كان موجعاً، وهو يصرخ: {كل شيء ليس على ما يرام}، ويبدو أنه نكأ الجرح، الذي أراد له البعض أن يندمل، وفضح الانتهازيين والمتحالفين والمتنازلين والخونة (في الفيلم مشهد لأحد المجاهدين يقوم بتصفية أحد رفاق السلاح لأن ضميره لم يمت)!

المفارقة أن المخرج الذي كان بمثابة فخر للجزائر والجزائريين، بعد ما حصد فيلمه الروائي الطويل الأول {مسخرة} قرابة عشرين جائزة، كما رُشح لأوسكار أفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية، ممثلاً للجزائر في مسابقة العام 2008، تحوّل، بين ليلة وضحاها، إلى {متطاول}، و}مُغرض}، بعد اتهامه بالإساءة إلى الإسلام، و}شيطنة} المجاهدين وأبطال ثورة التحرير بينما أصبح الفيلم {مغضوباً عليه}، وهو ما أتوقع أن يتعرض له فيلم {حكاية الليال السود} (الجزائر وفرنسا / 2015 ) إخراج سالم الإبراهيمي، الذي انتهزت إحدى الصحافيات الجزائريات فرصة التعرض له في إحدى جلسات ندوة {التسامح والسينما}، التي نُظمت في إطار {أيام الفيلم العربي المتوج} (18 – 23 ديسمبر 2015)، ومنحت نفسها حق سحب الجنسية الجزائرية عن مخرجه، فيما اتهم صحافي جزائري آخر فيلم {البئر} (الجزائر/ 2014 ) إخراج لطفي بوشوشي، الذي قدم رؤية مغايرة لحرب التحرير الجزائرية، بأنه {متسامح مع المحتل}!  

للأزمة صلة – في رأيي - بالإشكالية المزمنة التي تطفو على السطح في كل مرة يقترب فيها المشتغلون بصناعة السينما والتلفزيون في مصر وغيرها من الدول العربية من التاريخ، فالبعض يريد قراءة التاريخ، وروايته، من وجهة النظر التي تتفق وقناعاته الخاصة، ولا يهم هنا إن كان ثمة تجن على وقائع التاريخ، أو تحريف لفصوله، وهو ما يعني أننا أحوج ما نكون إلى روح متسامحة تقرأ الفيلم، وتستمتع بقراءته، ورسالته، كما تتفهم رؤيته واجتهاد أصحابه، بعيداً عن الانفعالات العصبية، والاتهامات المجانية، من نوعية أن الفيلم يسيء إلى قدسية الثورة، ويمثل إهانة للثوار، وهي الاتهامات نفسها التي تطول كل من تسول له نفسه الاقتراب من {التابوهات} وتحطيمها، مثلما حدث في أفلام: {البريء} (السياسة)، {المهاجر} (الدين) و{الزين اللي فيك} (الجنس).. وغيرها!