عبر محركات البحث أحب الاستماع إلى موسيقى أو صوت من الزمن الجميل، فأنسى ما كنت بصدد البحث عنه، كأنني وجدت كنزاً أغلى، فأعود بذاكرتي إلى أول مرة استمتعت فيها إلى هذا الصوت أو القطعة الموسيقية أو التلاوة من أحد المبدعين في القراءة، ويتملكني إحساس غريب يعيدني طفلاً حيناً، وشاباً أحياناً، وأنتشي محلقاً في فضاء لا متناهٍ، لا صلة بينه وبين ما يخترق أسماعنا من صخب و"شعوذة " في زمن العبث بالقيم الفنية الذي أصاب الذائقة العامة في مقتل.

Ad

أسأل عن ذائقة هذا الجيل الذي تغزو أسماعه الأغنيات "النشاز" الخالية من المضمون واللحن الراقي والشكل المحترم!

لدى القائمين على "حلقة الشعوذة " في وطني الجواب جاهز، بأن هذا هو التجديد، ويزيدون بأنهم يبعثون التراث ليواكب العصر بأدواته الجديدة وسرعته، كأنهم يتقصدون "استغفال" المستمع الذي تربت أذناه على كل جميل من الكلمة والصوت واللحن بجهلٍ يهلل له من يمكرون بالذائقة والمشاعر الراقية، ويسهلون له الأمر.

في سيرة الفنانين الأوائل نقرأ معاناتهم في مواجهة المجتمع والبيت، وكيف تغلبوا على كل ما كان يصدهم عن الهدف النبيل ويوصد الأبواب في وجوههم، وكيف نالت منهم الحاجة والفقر قبل أن يعترف المجتمع بهم وبأصالة إبداعاتهم، ولم يتوقفوا عند النجاحات، بل إن إخلاصهم لم يمنعهم من إنفاق كل ما حصدوا من المال في سبيل استكمال رسالتهم التي آمنوا بها.

في المقابل، لم يصل إلى أسماعنا أن أحداً من "جوقة المشعوذين في عالم الطرب اليوم" لم يخبرنا بأنه كان مبدعاً "منذ نعومة أظفاره"، ولم يخبرنا أنه من صناعة إعلام هابط وقنوات تتصارع على "الغث" أهملت القيم الرفيعة حين أفسحت المجال لبرامج هي أشبه بالأندية الليلية، تتصدر المشهد مطربة كاسية عارية، لو انقطع التيار الكهربائي لأصابت المستمعين بالسكتة القلبية من هول ما يسمعون!

من تجاهَل أن الطرب توقف بعد أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وفريد وحليم وغيرهم ممن أمتعونا بكل جديد وتنافس شريف على تقديم الأفضل، فقد ظلم وطعن وجدانه بخنجر.

يُذكر أن الموسيقار عبدالوهاب في شبابه، حينما كان يبث روحاً جديدة في الموسيقى الشرقية، في وقت كان أمير الشعراء أحمد شوقي يرعاه فنياً ويحتضنه، جاء إلى شوقي ذات مرة يتأبط مجموعة من الصحف والمجلات شاكياً أنها تهاجمه لتكسر عزيمته وتريد له أن يبقى "ساكناً" في قديم الموسيقى!

وبنظرة الحكيم قال له أمير الشعراء: "ضع كل ما تحمله من صحف ومجلات على الأرض ثم قف فوقها"! ثم سأله: من الأعلى الآن؟!

التقط الرسالة بفطنته وعبقريته المبكرة، ومضى يطور ويجدد في اللحن والصوت والأدوات... فماذا حصد المستمع؟!

سؤال أجاب عنه الرصيد الهائل من إبداعات هذا الفنان العبقري، الذي عاش أزماناً تقلبت فيه الأمزجة العربية، وفي كل مرحلة كانت أعماله ترتقي بالذائقة.

لم يكن عبدالوهاب الفنان الوحيد الذي واجه مثل هذه الحالة، بل إن قصة عبد الحليم حافظ مع الجمهور في أولى حفلاته في مدينة الإسكندرية مثال آخر على الصمود والتفاني في طريق الإبداع حين غنى "صافيني مرة" للمرة الأولى على المسرح، وكاد الجمهور يضربه، وأكمل وسط ضجيج المحتجين، لكنه عاد في العام التالي، وعلى نفس المسرح غنى نفس الأغنية التي لاقت، ومازالت تلاقي، نجاحاً عظيماً، وبعد وفاته بسنين رددها مطربو اليوم لتمنحهم صك المرور إلى عالم الطرب، ولكن شتان بين هذا وذاك.

وليست قصة عميد المسرح العربي يوسف وهبي ببعيدة عن هذه الحالات، وهو ابن العائلة الثرية التي لفظته لأنه قرر أن يكون ممثلاً وعاش حياة الفاقة في إيطاليا التي ذهب إليها ليتعلم فن التمثيل، وعندما عاد أنشأ مسرحه الذي تخرج فيه عمالقة فن الزمن الجميل.

ولعل الإقبال الشديد الذي مازال قائماً على مشاهدة الأفلام القديمة (الأبيض والأسود) دليل على عظمة الرسالة الفنية ورسم صورتها الباهرة بما يؤكد أن الفن كان في أيدٍ أمينة، بدأت من سمو الفكرة وجمال الشخصية واللفظ الراقي في الحوار الجميل، وهو ما نفتقده في أعمال الـ (Take Away) لو صح التشبيه.

نتلفت حولنا اليوم فلا نجد مثل هذه النماذج التي تجعلنا نطمئن على الذوق الفني!

* كاتب فلسطيني - كندا