أيام العمر المسروقة

نشر في 09-11-2015
آخر تحديث 09-11-2015 | 00:01
 فوزية شويش السالم وسائل السوشال ميديا كلها من الفيسبوك والتويتر والإنستغرام والسناب شات والبري سكوب وغيرها سواء ما هو موجود منها الآن أو القادم في مستقبلها القريب، كلها ليست إلا وسائل لسرقة أيام العمر التي تضيع في تواصلها الخادع الكاذب، وهي ليست أكثر من مضيعة للوقت ولقيمة ساعات الزمن المهدورة فيها، فما نشاهده اليوم من تغيرات اجتماعية ونفسية وأخلاقية كلها تمت بفضل التواصل عبرها، وبصراحة أكثر هي ليست تغيرات عابرة فقط مثل موضة أو موجة وينتهي تاريخ سطوتها وينمحي أثرها، بل هي أكبر وأخطر من ذلك وتأثيرها هو اجتياح عاصف لنسف عادات وتقاليد وتغيرات أخلاقية ونفسية اجتماعية بدأت تضمحل وتتحلل، لتحتل مكانها تركيبة جديدة ليست نابعة من أصالة هذه المجتمعات الخليجية والعربية، لكن تأثيرها واضح عليها وربما بشكل أكبر على  المجتمعات الخليجية ذات العادات التقليدية الراسخة، فوسائل السوشال ميديا فيها أكثر انتشاراً بسبب الرفاهية المادية التي تمكن الأغلبية من تملك اشتراكات الإنترنت في منازلهم وهواتفهم النقالة، مما يبقيهم طوال الوقت على تواصل دائم فيها، سواء أثناء ساعات العمل أو خارجها، فالجميع يهرول للتواصل عبر هذا العالم الافتراضي الخرافي ناسياً عمله وجودة إنتاجه ومصالح الناس التي يجب أن يقضيها، وكل ما حوله من علاقات أسرية وعائلية بدأ يتفكك تواصلها الحقيقي وترابطها الحميم بسبب الهرولة خلف النجومية الوهمية والتسويقية الكاذبة، التي تحصدها أعداد "الكومنت واللايك" لترويج وتسويق منتجات استهلاكية أو أفكار تافهة لبعض من لا يملكون أي موهبة وجدوا في هذه الوسائل من يماثلهم فيها، وليكبر مستنقع السفاهة والتفاهة بتزايدهم عبرها.

العادات في المجتمعات الخليجية المحافظة أخذت تتغير سريعاً بفضل وسائل الميديا وسرعة بثها ونقلها لكل ما هو غريب وجديد سواء ما هو صالح لها أو غير متفق مع طبيعتها المتمسكة بعاداتها، وفي الكويت على وجه الخصوص وجدت وسائل السوشال ميديا ضالتها في مجتمع "الهبة"، وهذا اصطلاح كويتي لم أجد ما يماثله في اللغة العربية، وهو يعني الركض خلف كل ما هو جديد بانبهار سريع لاهث، لكن هذه الوسائل دورها أخطر على المجتمع من هبات تمر و"تعدي"، هذه هبة غيرت عادات وأخلاق الكبار والصغار وباتت أغلبية أفراد هذا المجتمع المحافظ منفتحة بشكل كبير غير عادي، وبات بث التواصل من خلال البيوت المفتوحة للكاميرات لتتجول بها وتتعرف على أفرادها وعلى عاداتهم وطباعهم وأوقات صحوهم ونومهم وموائد أكلهم ولبسهم ومشترياتهم وتصاحبهم الكاميرا حتى غرف النوم، الكل سعيد ولا يوجد لديه ما يخفيه، فكل حياته بكل تفاصيلها اليومية هي بث حي مباشر مفتوح للجميع بدون أي تحفظ أو استئذان، والكل يهرول خلف الحصول على أكبر عدد من أرقام الكومنت واللايك، بل إن بعضهم تعدى متابعوه الملايين، مما دفع القنوات الفضائية الكويتية للتعاقد معهم كنجوم لتقديم برامج أُعدت خصوصاً لهم، كما أني شاهدت قناة العربية الإخبارية القديرة المتزنة تنقل مقابلة مع فتاة من نجوم السوشال ميديا في الكويت من غرفة نومها، وهذا يدل على  مدى النجومية التي اجتاحت المجتمع الكويتي، وجعلت الكثيرين يتخلون عن مهنهم كموظفين في الدولة أو عاملين في القطاع الخاص لمصلحة نجوميتهم التي باتت تدر عليهم عشرة أضعاف  المكاسب التي تدرها عليهم وظائفهم وأعمالهم.

وسائل السوشال ميديا على قدر ما فتحت العلاقات في المجتمع إلا إنها علاقات كاذبة تربطها مصالح إعلانات تجارية ترويجية تقوم بنشر "الهبات" التي يلهث خلفها مجتمع "الهبة"، ثم تنتهي بانتهاء الموجة حين تعتليها موجة جديدة تمحيها.

ويبقى السؤال ما هو الحقيقي في هذه الحياة غير الحقيقية الجارفة لكل ما هو أصيل وحقيقي في حياة الناس وتراحمهم في دفء علاقات أسرية وعائلية بدأ يتحلل نسيج تماسكها الحميم بسبب الانغماس في شبكة عالم وهمية تسرق أهم ما في حياة الإنسان وهو العيش والاستمتاع بسنوات عمره قبل أن "تتسرسب" وتتسرب من خلال وهم العيش في فراغ عالم وهمي يعزله عن محيطه الأقرب لاستثمار عواطفه معه، بدلاً من تضييعها في عالم غول استهلاكي للمادة والبشر لم يعد المتابعون فيه يعيشون لحظاتهم بالاستمتاع بها بقدر حرصهم على تصويرها وبثها حتى وإن سُرقت أعمارهم فيها.

back to top