تمر منطقتنا العربية منذ فترة بمرحلة انتقالية صعبة ومُعقّدة ترافقها موجة كريهة من الدمار والعنف الدموي وعدم الاستقرار السياسي-الاجتماعي. لقد أتت هذه المرحلة المضطربة بعد عقود طويلة من الجمود السياسي، والإفقار، والتراجع التنموي، وانتشار البطالة، والظلم والتخلف الاجتماعيين نتيجة هيمنة أنظمة حكم استبدادية طاغية سياسيا وتابعة اقتصاديا للرأسمالية الاحتكارية العالمية، حيث احتكرت مجموعة قليلة السلطة والثروة، وتعاملت مع الدولة وكأنها شركة عائلية مقفلة، وهو الأمر الذي ترتب عليه تدمير ممنهج لبُنى الدولة الوطنية ومقوماتها، وللأسس التي تقوم عليها الدول الحديثة مثل المواطنة الدستورية، واحترام التنوع الاجتماعي والتعددية السياسية، وحفظ حقوق المواطنين عامة.

Ad

لهذا قامت "ثورات الربيع العربي" فخلخلت الوضع السياسي، وهزت أركان الأنظمة الاستبدادية وأصابتها بالذعر، لكنها لم تمُس نظامها الاجتماعي-الاقتصادي لأسباب عدة من ضمنها أن البديل المدني الحقيقي الذي يحمل مهمة التغيير الديمقراطي والتقدم الاجتماعي ويستهدف إقامة دولة مدنية ديمقراطية حديثة لم يكن جاهزا آنذاك، لذا تسلمت السلطة في دول "الربيع العربي"، مصر وتونس تحديدا، تيارات الإسلام السياسي بقيادة "جماعة الإخوان" التي تعتبر من خارج قوى الثورة والتغيير الحقيقية، فهي لا تختلف اقتصاديا عن أنظمة الاستبداد والطغيان، بل تتبنى مثلها اقتصاد السوق المنفلت والسياسات النيوليبرالية مثل الخصخصة، وهو الأمر الذي لا يحقق مطلبي العيش الكريم والعدالة الاجتماعية اللذين طُرحا أثناء الثورات. أما سياسيا واجتماعيا (شكل نظم الحكم واحترام الحريات العامة والشخصية) فتيارات الإسلام السياسي لا تؤمن بالديمقراطية كنظام متكامل للحكم، بل تستخدم آلياتها كسلّم للوصول للسلطة، وهي أكثر تخلفا ورجعية من الأنظمة التي قامت الثورات من أجل إسقاطها (موقفهم فيما يتعلق بالأقليات العرقية والدينية والمذهبية والإثنية كان في منتهى التخلف)، وهذا يتناقض مع مطالب الحرية والكرامة والديمقراطية التي طُرحت أثناء الثورات.

انكشاف بديل الإسلام السياسي وفشله، وبالذات "الإخوان"، جعل الشعوب تثور ضدهم وتطالب بإسقاطهم بالرغم من عدم جاهزية البديل المدني وقوة قوى الثورة المضادة، وهو ما حصل بالفعل في الموجة الثورية (30 يونيو) في مصر التي أسقطت حكم "الإخوان"، وأثرت كذلك على تطور الوضع السياسي في تونس، بالإضافة بالطبع للدور الوطني الذي قامت به القوى المدنية والتقدمية هناك، حيث تراجع "الإخوان" في تونس "حزب النهضة" عن توجههم بالانفراد بالسلطة وإقصاء الآخرين.  وهنا يتوارد إلى الذهن بعض الأسئلة مثل: ما أوجه الاختلاف فيما يتعلق بطبيعة نظام الحكم، وشكل الدولة، وحقوق المواطنين كافة بين أي تنظيم سياسي سنّي أو شيعي وآخر من الطائفة نفسها أو من الطائفة الأخرى؟ أليس هذه التنظيمات جميعا هي ذاتها من ناحية النوع، وهدفها واحد وهو العودة إلى "دولة الخلافة الإسلامية"، لكنها تختلف فيما بينها في الدرجة، أي الأسلوب والتوقيت؟ "داعش" على سبيل المثال يستخدم سياسة "حرق المراحل" أما "الإخوان" والتنظيمات السياسية الشيعية فتستخدم "التقية" السياسية أي البراغماتية والميكافيلية السياسية. أما على المستوى المحلي فكان لتيار الإسلام السياسي (الإخوان والسلف) ومؤيديه صولاتهم وجولاتهم نحو إلغاء مدنيّة الدولة، مثل الطلب المتكرر لتعديل المادة 2 من الدستور، ثم المادة 79 وغير ذلك من قوانين، أو ما جاء فيما أطلق عليه "مشروع الإصلاح السياسي"، وقدم باسم "ائتلاف المعارضة"، وهو ما سبق أن تطرقنا له في حينه. ناهيكم عن تأييدهم القوي وغير المحدود لحكم الإخوان (حكم المرشد) في مصر.

وبالنسبة إلى تيار الإسلام السياسي الشيعي فبديله ماثل أمام أعيننا في كل من إيران والعراق، وهو إقامة دولة ثيوقراطية طائفية متخلفة (ولاية الفقيه) تُقصي المكونات الاجتماعية-السياسية الأخرى ويتحكم فيها المُرشد (الولي الفقيه) ومن يختاره هو شخصيا أو يوافق عليه.  بناء على ما سبق، فإن البديل المدني الديمقراطي الذي تطرحه قوى التغيير الديمقراطي والتقدم الاجتماعي من أجل بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة وعادلة تتجاوز مشاريع حكم أنظمة الاستبداد والظلم الاجتماعي، هو البديل الحقيقي في هذه المرحلة التاريخية المضطربة. أما تيارات الإسلام السياسي (السنية والشيعية) فلا تملك بديلا مختلفا عن أنظمة الاستبداد يمكنها تقديمه للشعوب العربية، في سورية والعراق مثلا، إذ ليس لديها إلا نموذج دولة إيران أو  نموذج دولة طالبان في أفغانستان و"الإخوان" في السودان، أما نموذج تركيا الذي يشيد به تيار الإسلام السني على الدوام لأن "الإخوان" في السلطة هناك، فهو نموذج مختلف كلية، فتركيا دولة علمانية لديها نظام ديمقراطي مستقر يضمن التعددية والتداول السلمي للسلطة.