من الممكن، إذا سافرت من مطار هيثرو في لندن، أن تطير فوق حقل عشبي يدعى رونيميد، وكان مشهد هذا الحقل قبل 800 عام تتخلله الألوان، حيث كانت هناك خيام البارونات والفرسان والخيمة الأكبر لملك إنكلترا جون، والتي تبدو كخيمة السيرك الكبيرة والعلم الملكي يحلق عالياً.

Ad

بالرغم من الطابع الاحتفالي لهذا التجمع والأبهة المحيطة به كانت الأجواء بالتأكيد متوترة، فالهدف كان تسوية النزاع بين البارونات الثائرين وملكهم، وهو حاكم وصفه أحد معاصريه بأنه "ممتلئ بالصفات السيئة".

إن جهود جون لجمع الأموال من أجل استعادة الأراضي المفقودة في فرنسا تجاوزت الضرائب والرسوم، والتي كان النبلاء يقبلونها من الملوك السابقين، فلقد كان الملك جون يستولي على الملكيات وأحياناً يعتقل اللوردات والتجار الأغنياء، ولا يفرج عنهم إلا بعد دفع مبالغ باهظة.

لو كانت السنوات التي قضاها في جمع الأموال قادت إلى النصر كان يمكن لجون أن يفرض أساليبه التعسفية، ولكن عندما تعرض للهزيمة في فرنسا، ثارت مجموعة من البارونات ضده، واحتلت لندن وكجزء من صفقة السلام والتي رعاها كبير أساقفة كانتربري قبل الملك مطالبات البارونات، والتي تم تقديمها له في وثيقة أطلق عليها اسم "ماغنا كارتا" أو "الميثاق العظيم".

ماغنا كارتا لم تكن أول ميثاق يصدر عن ملك إنكليزي، فقبل قرن من ذلك التاريخ أصدر هنري الأول مثياق التتويج، والذي كان يوحي بأنه سيكون أكثر احتراماً لمزايا النبلاء، مقارنة بمن سبقه، ولكن خلفاء هنري عادوا سريعاً إلى الأساليب التعسفية للملوك في ذلك الزمان.

كان يبدو أن الماغنا كارتا لن تدوم طويلاً كذلك، ولقد تم إلغاؤها بعد ذلك بوقت قصير من قبل البابا أنوسينت الثالث، والذي شكل تحالفاً مع الملك، ولكن جون توفي في العام الذي يليه، والنبلاء دعموا خليفته البالغ تسعة أعوام هنري الثالث، والذي كان بحاجة لذلك الدعم ضد منافس يطالب العرش ومن أجل الحصول على ذلك الدعم، قامت حكومة هنري بإعادة إصدار نسختها من الماغنا كارتا، والتي ما تزال جزءاً من قوانين إنكلترا.

لقد تم عمل نسخ وتوزيعها للكاتدرائيات الإنكليزية العظيمة، وتمت ترجمة النسخة اللاتينية أولاً إلى الفرنسية، وهي لغة النبلاء، ومن ثم إلى الإنكليزية، وبحلول نهاية القرن كان الفلاحون يستشهدون بها في صراعهم ضد الظلم.

لقد تم عمل أول طبعة للماغنا كارتا سنة 1508، ولقد رأى فيها النبلاء في سنة 1640 الاساس القانوني لإطاحتهم بالملك شارلز الأول، ولاحقاً قام بعض الثوار، بما في ذلك الثوريون الأميركان ونيلسون مانديلا، باستخدامها كذلك في تبرير أفعالهم.

إن الذي أخذه هؤلاء المقاتلون من أجل العدالة والحرية من وثيقة تصل كلماتها إلى 3500 كلمة هو بيانات موجزة لمبادئ عامة رداً على الحجز التعسفي من قبل جون لممتلكات رعاياه، بالإضافة إلى الأشخاص، إذ تنص الماغنا كارتا في الفصل 39: "يجب ألا يتم اعتقال أو سجن أي رجل حر أو سلبه ممتلكاته أو اعتباره خارجاً عن القانون أو نفيه أو تدميره أو أن نكون ضده أو نرسل أشخاصاً ضده باستثناء من خلال حكم قانوني صادر عن نظرائه أو بموجب قانون البلاد"، كما ينص الفصل الأربعون بإيجاز على مبدأ قوي آخر: "لن نبيع لأي شخص، ولن ننكر على أي شخص أو نؤخر عن أي شخص الحق والعدالة".

إن هذين الفصلين لهما صدى في التعديل الرابع عشر للدستور الأميركي، والذي ينص على أنه لا تستطيع أي دولة أن تحرم أي شخص حياته أو ممتلكاته بدون إجراءات قانونية، أو أن تحرم أي شخص "الحماية المتساوية للقوانين".

لكن الماغنا كارتا ليست وثيقة ديمقراطية، فعلى الرغم من أنها أسست لمطلب الموافقة المشتركة على فرض الضرائب فلقد كان يتم الحصول على تلك الموافقة من جمعية من البارونات والأساقفة ورؤساء الأديرة، وفي عصر الفروسية لم يتم حتى دعوة الفرسان إلى المشاركة.

لقد كانت هناك أصوات في تلك الفترة تدعو إلى تمثيل بلدات مثل لندن، ولكن هذه الفكرة لم تجد لها مكانا في النص النهائي، وعليه فإن ما تظهره الماغنا كارتا بشأن "من يحكم" هو سؤال مطروح، ولكن "ما هي حدود السلطة السياسية ان وجدت؟" هو سؤال اخر تماما.

ونظرا لأن الماغنا كارتا حاولت أن تضع حدوداً للقوة السياسية بدون تأسيس تلك الحدود على سيادة الناس، فإنها تكون بذلك قد أظهرت مشكلة تصدى لها الفلاسفة لفترة تمتد لاكثر من 800 عام، وهي من أين تأتي المبادئ التي تقيد الحكام لو لم تأتِ من الحكام أو رعاياهم؟

إن تقليد القانون الطبيعي يعطينا جوابا كان معروفا لدى الباحثين في العصور الوسطى والذين كانوا يعتقدون إن بإمكاننا معرفة القانون الطبيعي عن طريق المنطق الطبيعي (عكس القوانين، والتي يمكن اكتشافها فقط من خلال الوحي الإلهي). إن المبادئ الرئيسية للماغنا كارتا مستقاة من المنطق، لأن فكرة القانون تستثني الاعتقال والمصادرة التعسفية وإصدار الأحكام على أي أساس باستثناء التطبيق الصحيح للقانون. لو كان "أ" ملزماً قانوناً بإعادة بقرة "ب" إذا ضلت طريقها في أرض "أ"، وبعد ذلك ضلت بقرة "ج" طريقها في أرض "ب" في ظروف مشابهة فإنه يتوجب أن يكون "ب" ملزماً كذلك بإعادة بقرة "ج"، و"ج" لن يكون بحاجة لدفع رشوة إلى قاض من أجل ان يسترجع بقرته.

لا يوجد هناك أي شيء في الماغنا كارتا قد يمنع فرض وتطبيق القوانين الظالمة، ولكن هذه الوثيقة رفعت القانون ليصبح أعلى من إرادة الحاكم ولكن للاسف ما تزال هذه الفكرة غير مقبولة في العديد من البلدان، وكما يدل استمرار السجن الأميركي في خليج غوانتنامو، فإنه حتى بين البلدان التي يمتد تاريخ مؤسساتها السياسية إلى الماغنا كارتا فإن التهديدات الأمنية التي يتم تصورها قد أضعفت المتطلب بألا يتم الاعتقال إلا بموجب قانون البلاد وألا يتم تأخير العدالة.

* بيتر سنغر | Peter Singer ، أستاذ في الأخلاقيات البيولوجية بجامعة برنستون وأستاذ فخري بجامعة ملبورن

 «بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة"»