للمرة الأولى في تاريخ كردستان العراق، يعيش نحو مليوني عربي سني في المدن الجبلية التي كانت منتجعات ومصايف وتحولت اليوم إلى مخيمات عملاقة للنازحين القادمين، خصوصاً من الموصل وتكريت والرمادي، التي أصبحت بيد «داعش»، أو باتت ساحات حرب.

Ad

 وعكس مجيء هذا العدد الكبير من العرب السُّنة إلى كردستان الخطورة المتزايدة للانقسام الطائفي الذي لم يوفر مناخاً كافياً لتشجيع أهل المناطق الساخنة على الذهاب جنوباً نحو مناطق الشيعة، ما أنتج حقيقة مؤلمة بالنسبة إليهم، هي عجز العراق كدولة عن احتوائهم، ومبادرة إقليم كردي «متهم بأنه انفصالي ومستقل» لاستيعابهم وتحمل كلفة أمنية واقتصادية باهظة.

وبعد مرور 14 شهراً على انهيار الجيش العراقي، وعجز بغداد عن استرجاع مدن مهمة، لم يعد النازحون السُّنة قادرين على امتلاك آمال معقولة أو مبررة، بالعودة إلى منازلهم، خاصة بعد أن لاحظوا النتائج الغامضة لعمليات تحرير تكريت حين نجح الجيش مدعوماً بالحشد الشعبي الشيعي، في طرد «داعش» من معظم المدن حول مركز محافظة صلاح الدين، لكن نحو 600 ألف نازح تكريتي لا يزالون يعيشون في كردستان ظروفاً صعبة جداً، دون أن يُسمَح لهم بالعودة إلى منازلهم.

ومجمل هذه السياسات جعلت النازحين السُّنة ينفصلون بمشاعرهم عن الحكومة المركزية، التي تصبح «شيعية» أكثر فأكثر، حتى أن رئيس البرلمان سليم الجبوري نفسه، علّق على حزمة الإصلاحات التي أطلقتها حكومة حيدر العبادي مؤخراً، بأنها لا تتضمن أي فقرة تخص المدن السنية أو «أمة النازحين» العالقين في مخيمات أو مدن جبلية بكردستان! ولذلك لم تعد «أمة النازحين» تناقش كثيراً مستقبل حكومة العبادي، أو خطط الجيش لاسترداد الموصل والأنبار، وبدلاً من ذلك صارت أوساط الشباب تتناقل شائعات ومبالغات وأخباراً لا أساس لها من الصحة أحياناً، حول خطط الولايات المتحدة الرامية إلى إعادة تأهيل السُّنة.

وتدور «أساطير» حول ضباط سابقين في الجيش، لديهم صلة بواشنطن، مرة بوصفهم سيلعبون دوراً في تأسيس إقليم سني على غرار إقليم كردستان، يمثل قوة سياسية وعسكرية مستقلة نسبياً عن بغداد لحفظ مصالح العرب السُّنة، ومرة تفترض هذه الشائعات الرائجة، أن الضباط السُّنة سيتلقون دعماً «للاستيلاء على السلطة» بعد أن تسقط حكومة حيدر العبادي نتيجة عجز مالي متوقع وتصعيد في الاحتجاجات وفوضى تصنعها ميليشيات موالية لإيران.

لكن الخبراء في الشؤون السنية يقولون، إن قيمة سوق الشائعات هذا، في كونه يعكس الخيبة المؤسفة بالحكومة المركزية، وخيبة السُّنة في امتلاك «ثوار» حسني السمعة بعد كارثة «داعش»، ما جعل أمانيهم تنحصر في ظهور خطة إنقاذ أميركية، تعيدهم إلى منازلهم.

 ويمثل ذلك نموذجاً صارخاً للتقلبات السياسية العنيفة في العراق، التي جعلت السُّنة الذين كانوا عنواناً للتمرد على الوجود العسكري الأميركي في العراق، باحثين عن «منقذ أميركي»، فكما قامت واشنطن بـ»إنقاذ الشيعة» من حكم صدام حسين عام 2003، فإنها ستعود و»تنقذ السُّنة» بعد عقد ونصف من الزمان، بينما تنشغل إيران وروسيا طبعاً بإنقاذ نظام بشار الأسد المجاور.

وكل عمليات الإنقاذ هذه تحمل رسالة سيئة لفكرة العراق كدولة، وتنعش دور مختلف الفصائل المسلحة، وتضع الطبقة السياسية في أخطر التحديات.