كراكيب

نشر في 10-08-2015
آخر تحديث 10-08-2015 | 00:01
 فوزية شويش السالم «كراكيب»، سيرة ذاتية للكاتبة الشابة نهى محمود، ولأنها شابة في أول عمرها وكتبت سيرتها الذاتية، فقد لفت هذا الأمر نظري. فكيف يدون الكاتب سيرته وهو في بداية مشواره الحياتي والعملي، في سن مبكرة لم تتكون فيه خبراته التي تحتاج إلى مرور الزمن حتى تختمر على مهل وتعجن بتراكم التجارب والخبرات إلى أن يحين موعد ولادتها عندما يصبح العمر، متقدما نوعا ما، حتى لا أقول في أواخر العمر، وهو ما درجت عليه تقريبا كتابة السير كلها العربية والعالمية.

ولكن نهى محمود خالفت هذا النظام، وانقلبت عليه بكتابتها لهذه السيرة التي ذكرتني بسؤال صحافي في بداياتي حين طلب سيرتي الذاتية ومتى سأكتبها، الأمر الذي أدهشني وأثار استغرابي، إذ كيف يُطلب من كاتب سيرته الذاتية وهو مازال في بدايته ولم تتكون لدية حصيلة كافية من الخبرات بجميع أشكالها؟

كان في ذهني نمط معين لكتابة السيرة والشكل العام الذي تُكتب فيه معظم السير، أي من الطفولة إلى الكهولة مع بعض الاختلافات في التقنيات بحسب أسلوب الكاتب، ومن كل بد أن تتضمن سيرة حياته الخاصة والعامة بشكل شبه كامل أو أنه يركز على الجزء الأهم في مشواره وغالبا ما يدور حول مهنته.

هناك كتاب عرب وأجانب كتبوا سيرة الجزء الأهم من حياتهم والذي كان له دور وأثر كبير فيهم، ولم يتطرقوا إلى بقية التفاصيل الحياتية الأخرى، وأتذكر من مصر الكاتبة «نورا أمين» التي كتبت جزءا من سيرتها في رواية قصيرة اسمها «قميص وردي فارغ»، كانت رواية أو سيرة روائية جميلة ذاتية جدا غارقة في التفاصيل تتطلب وعيا شديدا بالذات ومحاصرتها في رقابة لحظوية عميقة، وهو الأمر الذي يتطابق مع كتابة نهى محمود الغارقة في ذاتها وكل ما يُحيط بها من تفاصيل تخصها وتخص عالمها الخارجي والداخلي، سواء كان بشريا مثل من تحبهم وتتعايش معهم أو ماديا مثل ملاعق الخشب أو صحون المطبخ، مثال على ذلك: «أقف أنا الآن، أستخدم أدواتها وأعرف تاريخ كل ملعقة في هذا المكان، أعرف ما اشتراه لها جدي عند زواجها وما اشتراه لها أبي ومناسبة كل طبق، وحكاية كل كوب... «.

هناك من يعيب الكتابة الذاتية وأنا لست من ضمن هؤلاء الذين يرون الأدب والفن يجب أن يخدما قضايا عامة لا خاصة، ويرون الخصوصية الذاتية أمراً سيئاً ومعيباً، لكن الذاتية في الكتابة والفن أمر صعب وبالغ الحساسية ويتطلب ممن يمارسه رهافة وعمقا حسيا ليس من السهل توافره عند أي أحد، وهو ما توافر في كتابة نهى محمود التي تسرد بطريقة حميمية حسية وبساطة رهيفة مشبعة بصدق طفولي عذب يذوب قلب القارئ ويخترق وجدانه، فهي تغوص في أعماق الذات وتراقب انعكاسات جميع التفاصيل الحياتية عليها، وهذا ليس بالأمر السهل أن يرصد الإنسان تفاصيله بهذه الدقة، أمر يحتاج إلى فراغ كبير صامت يسمح له بتلقط حتى ذرات الهواء في تنفسه «أبدو كموج يحارب رمل الشاطئ، كلانا هش، الماء والرمل». «لا يصنع الاتفاق مع الذات أي كتابة، وحدها الخلافات والصراعات والزلازل، وربما الأمراض النفسية والجنون، تصنع الكتابة العظيمة».

عندما تكون الكلمات خارجة من روح كاتبها لا مجرد كلمات من القاموس، حينها يصعب تجاهلها أو مجرد المرور السريع عليها، فما يخرج من القلب يدخل سريعا إلى قلب مماثل له، فهذه كتابة تجعل الكاتب قريباً جدا من القارئ، وتقيم بينهما صداقة فضفضة: «كل ذلك يحيرني ويقلب هدوء ماء جدولي، وأفكر في كل شيء، أفكر بشأن ابتسامتي وضحكي وهذياني وصمتي وحواراتي وفلسفتي وجنوني وتعقلي، واحتار ولا أنسى وسط كل ذلك أن أقاوم مخاوفي وألون جدران عالمي وأمارس الدهشة كما يستحق العالم أن أمنحه».

هذه سيرة لا تحكي الكثير من حياة كاتبتها ولكنها تغوص بكشف مواطن الذات ورؤيتها لنفسها ومحاولة التعرف عليها، ما يحزنها وما يسعدها وما يشقيها حين يأخذ الموت أمها، ويتركها في مواجهة الفقد والاستيحاش لغيابها الكبير ولفراغ مكانها وتلبد روحها بالشجن وهو ما يجعل الكتابة نزفاً من الروح لا من القلم: «كانت أمي تبحث دوما عن إجابة لسؤالها، لماذا أبدو هشة سهلة الإيذاء؟».

back to top