ما قل ودل: طلعت حرب واستشراق مستقبل مصر على أطلال الحاضر ( 1- 2)

نشر في 23-08-2015
آخر تحديث 23-08-2015 | 00:05
لم يكن طلعت حرب بعيدا عن السياسة، فهو سياسي بدرجة امتياز، وخطيب مفوه يجذب العقول والقلوب في وقت واحد، ولكنه اختار من دروب السياسة مفهومها الوطني المتعالي على دهاليز السياسة والصراعات السياسية والحزبية من طلاب الحكم.
 المستشار شفيق إمام 21 أغسطس يوم له تاريخ

في سياق الفرحة التي عمت مصر بافتتاح قناة السويس الجديدة، يقف تمثال في أحد ميادين القاهرة شامخاً، بعظمة رجل من أعلام الفكر والاقتصاد، بنى نهضة عظيمة في مصر، وأنقذها من الأزمة المالية العالمية التي اجتاحت العالم كله عام 1929، ولم تنج منها حتى الولايات المتحدة الأميركية، هذا الرجل هو طلعت حرب قائد النهضة والاقتصاد والصناعة في مصر بعد ثورة 1919، ففي مثل هذا اليوم 21 أغسطس سنة 1941 صعدت روح هذا القائد الملهم إلى بارئها.

 فهو لم يقنع بما حققته هذه الثورة على المستوى السياسي من اعتراف بريطانيا التي كانت تحتل مصر منذ عام 1882 باستقلال مصر، أو بدستور 1923 الذي صدر ليتوج هذا النجاح بحكم دستوري، ينزل فيه ملك البلاد عند إرادة شعبه، ولم يكن من طلاب الحكم، ولو سعى إليه لكانت مقاليد أمور مصر كلها في يده بل كانت رؤيته في استقلال مصر أنه لن تحققه ورقة مكتوبة يعلن فيها المحتل هذا الاستقلال، أو في أوراق مكتوبة تضم في حناياها دستورا للبلاد بل تحققه نهضة للبلاد في كل المجالات.

نهضة مصر

ولئن كان المصريون قد ترجموا آمالا عظيمة في نجاح ثورتهم، ثورة 1919، على هذه النهضة، فأقاموا للثورة تمثالا هو «تمثال نهضة» مصر واعتبروه شعاراً للثورة ورمزا لها، وقد خلبت لبهم إقامة هذا التمثال، فتابعوا المثّال مختار وهو يبني هذا التمثال خطوة بعد خطوة، ويزينون واجهات محالهم ومتاجرهم وبيوتهم واجتماعاتهم ومؤتمراتهم بصورة هذا التمثال، فإن طلعت حرب لم يكن الرجل الذي يرفع الشعارات أو يقنع بالرمز، بل كان مثالا من طراز مختلف، لا يبني تماثيله من أحجار بل من مشروعات عملاقة، ترجمت آمال المصريين العظيمة وتمثال نهضة مصر إلى حقيقة وواقع ينبضان بالحياة، ليضع مصر على قائمة الدول المستقلة استقلالا حقيقياً.

بنك مصر

فكانت دعوة طلعت حرب إلى إنشاء بنك وطني، وهو بنك مصر، غداة النصر الذي حققته ثورة 1919، إذ اكتتب في يوم 7 مايو سنة 1920 مئة وستة وعشرون مصريا بمبلغ 80 ألف جنية، هو كل رأسمال بنك مصر الذي تم تأسيسه به.

ولم يكن إنشاء بنك مصر بالأمر السهل أو الهين في هذه الفترة التي كان للمشايخ من رجال الأزهر ومن مدرسي الكتاتيب القول المسموع، فقد هاجموا مشروع إنشاء بنك وطني وكفروا الدعوة إليه، لأن عمل البنوك مما تحرمه الشريعة الإسلامية، باعتباره تعاطيا للربا وأكلا له، كما حاربت البنوك الأجنبية الموجودة في مصر مشروع إنشاء البنك التي راحت تسوق للمصريين بأن البنك لن ينجح لانعدام الخبرة لدى المصريين، وكان يرد على هذه التهم بالحقائق العلمية والعملية، وبما واجهته البنوك الأخرى في العالم من عقبات في المؤتمرات والاجتماعات التي كانت تعقد لشرح المزايا والفوائد التي ستعود على مصر والمصريين من هذا البنك.

 وتمضي السنون والبنك يكبر ويتسع ويزداد رأسماله وتزداد ودائعه، ويكثر عدد عملائه، وتكبر فكرته من فكرة مصرية إلى فكرة عربية وقومية، فيمتد بفروعه إلى سورية ولبنان وفلسطين والعراق والحجاز ونجد والسودان.

وينشئ قلعة صناعية

ولم يكن بنك ليشبع طموحاته وخياله السياسي والاقتصادي، فاتجه في القلعة الصناعية التي بناها إلى القطن، فمصر بلد زراعي، وكانت بورصة القطن في مصر هي التي تحدد أسعاره، اتجه إلى القطن لتصنيعه في أدواره المختلفة: النقل والحلج والغزل والنسيج والصباغة والتصدير، فأنشا في عام 1924 شركة الحلج للأقطان وفي عام 1925 شركة مصر للنقل والملاحة، وفي 1927 شركة مصر للكتان، وفي عام 1930 شركة مصر لتصدير الأقطان، وفي عام 1932 شركة بيع المصنوعات المصرية، وفي عام 1938 شركة مصر للغزل والنسيج.

ولم تقف تطلعاته في قلعته الصناعية عند القطن المحصول الرئيس لمصر كبلد زراعي، بل راح يتوجه إلى صنعات أخرى عاصرت إنشاء شركات الأقطان، فهو الرجل السياسي النافذ البصيرة الذي رفض أن تستهلكه الصراعات الحزبية، إذ أنشأ حزبا لتغيير أوضاع البلاد الاقتصادية والاجتماعية، واختار عالم المال والاقتصاد، وهو باطلاعه الواسع على ما تحتاجه مصر ينشئ مطبعة مصر في عام 1922، وينشئ شركة مصر للتمثيل والسينما في عام 1925، ومصر لنسج الحرير ومصر لمصايد الأسماك في عام واحد هو عام 1927، ومصر للطيران في عام 1932، وفي عام 1934 وحده ينشئ أربع شركات هي شركات مصر للتأمين، ومصر للملاحة البحرية، ومصر للسياحة، ومصر لدباغة الجلود، وفي عام 1938 ينشئ ثلاث شركات: مصر للغزل والنسيج التي تحدثنا عنها ومصر للمناجم والمحاجر، ومصر لتجارة الزيوت.

طلعت حرب رجل دولة

ولم يكن طلعت حرب في هذه المنظومة المالية والاقتصادية والصناعية إلا نموذجا لرجل دولة، أحب وطنه حبا جما وولع بهذا الوطن، فبنى بالجهود الذاتية لشعب مصر دولتهم المالية والصناعية في أعقاب ثورة 1919، فوضع المصلحة العليا لبلاده فوق مصالحه الشخصية، ولو أراد أن يحقق بهذه القلعة الصناعية التي بناها ثروة له ولأسرته من بعده لنجح في تحقيق ذلك، ولحقق من الثروات ما لا يحلم به أحد من أباطرة المال والأعمال الذين ظهروا فجأة في ظل نظام تزاوج المال بالسلطة في عهد الرئيس الأسبق مبارك، واحتلوا مقاعدهم في البرلمان وفي الحزب الوطني الحاكم، ولعلهم يبحثون الآن عن رجال يختارونهم لكي يكون لمصالحهم وأرباحهم الوهمية ومشروعاتهم التجارية ما يؤمّن مسيرتها في البرلمان القادم، فلا تُمس القوانين التي وضعها نظام مبارك وبرلمانه.

ولم يكن طلعت حرب بعيدا عن السياسة، فهو سياسي بدرجة امتياز، وخطيب مفوه يجذب العقول والقلوب في وقت واحد، ولكنه اختار من دروب السياسة مفهومها الوطني المتعالي على دهاليز السياسة والصراعات السياسية والحزبية من طلاب الحكم، فقد أحس بالمعاني الوطنية في صفائها ونقائها، وعمل على تحقيقها لمصلحة معبودته مصر... وفي كل خطوة خطاها كان يقول: تحيا مصر.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.

back to top