نحن في حالة حرب
في طرحه معالم استراتيجية لكيفية مواجهة «داعش»، يرى مويسى ضرورة استعادة السيطرة على الأراضي التي ضمها التنظيم، مع توحُّد الأوربيين فيما بينهم من جهة، وبينهم وبين الولايات المتحدة من جهة أخرى، لمواجهة ذلك التنظيم البربري، محذراً من الوقوع في الأخطاء الأميركية التي حدثت بعد 11 سبتمبر.
عرف الباريسيون، منذ الهجمات الإرهابية في شهر يناير على المجلة الساخرة "شارل إبدو" ومتجر الأطعمة اليهودية، أن البربرية أصبحت قاب قوسين أو أدني منهم، وأنها ستوجه إليهم ضربة ثانية، بيد أن معرفة الشيء وتوقعه ليسا كمواجهة الواقع المرير؛ ففي مساء الجمعة الماضية صفعتنا الحقيقة بهذه الرغبة في الانتقام، إننا في حالة حرب، ومن الخطأ، بل الخطير، ألا نعترف بذلك، ولكي ننجح يتطلب الأمر الوضوح والوحدة والحزم.فوضوح التحليل هو ما نحن في أمس الحاجة إليه، ونحن نكاد لا نعرف عدونا، باستثناء شدة كراهيته وشراسة وحشيته، ولفهم استراتيجيته، علينا الاعتراف به على ما هو عليه: خصم ذكي ومنطقي بطريقته الخاصة، لقد استهنّا به وقللنا من شأنه لفترة طويلة جداً، والآن نحن في أمسّ الحاجة إلى تغيير هذه النظرة.
في الأسابيع القليلة المنصرمة أفضت استراتيجية الإرهاب التي يتبناها تنظيم الدولة الإسلامية إلى الموت في شوارع أنقرة وبيروت وباريس وفي سماء سيناء، ولا تدع هوية الضحايا مجالاً للشك في الرسالة "من أكراد، وروس، ولبنانيين، وشيعة، وفرنسيين، أنتم تهاجموننا، لذا سنقتلكم".مغزى التوقيتولتوقيت الهجمات مغزى خاص مثله مثل القوميات المستهدفة، فكلما استفحلت هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية على الأرض وفقد السيطرة على الأراضي في سورية والعراق مال إلى توسيع رقعة الحرب إلى الخارج لردع أي تدخل لاحق، فقد ترافقت، على سبيل المثال، الهجمات المتزامنة في باريس مع خسارة الدولة الإسلامية لمدينة سنجار العراقية.لم تنشأ بالطبع الخلية الإرهابية التي ضربت باريس عقب خسائر المعارك الأخيرة للدولة الإسلامية، بل كانت موجودة بالفعل تنتظر تفعيلها (مثلما قد تتواجد غيرها)، ويبرهن هذا على المرونة التكتيكية لتنظيم الدولة الإسلامية، ناهيك عن وجود أناس مستعدين للانتحار.وإذا اختار تنظيم الدولة الإسلامية هذه المرة، في باريس، استهداف أشخاص ليسوا ساخرين، ولا رجال شرطة أو يهوداً، فهذا تحديداً لأن "طبيعتهم الاعتيادية" جعلتهم بلا حماية، لقد أعلت الهجمات هذه المرة من شأن "الكم" على "الكيف" (وأعتذر لاستخدام مثل هذه الصيغة الفظة)، فقد كان الهدف قتل أكبر عدد ممكن من الناس.وتلك استراتيجية ممكنة لأن الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية توفر ملاذا لهؤلاء وأماكن لتدريبهم، وبالنسبة لهذه المجموعة، تمثل الأراضي التي نصبت نفسها عليها "خلافة" نفس ما مثلته أفغانستان التي سيطرت عليها حركة طالبان، بالنسبة لتنظيم القاعدة في تسعينيات القرن المنصرم.ومن الضروري استعادة السيطرة على هذه الأراضي، ويجب أن يصبح تدمير مقاطعات تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا وفي سيناء وغيرهما على رأس أولويات المجتمع الدولي. وتأتي بعد الوضوح التحليلي الحاجة إلى الوحدة بداية بفرنسا، حيث سيرفض المواطنون الطبقة السياسية إذا استمر أعضاؤها في التصرف بروح الانشقاق والخلاف في مثل هذه اللحظة التي تعد نقطة تحول تاريخي واضحة للعيان.ومن الأهمية بمكان أن تتحقق الوحدة أيضا داخل أوروبا، فقد قيل لنا مرارا وتكرارا إن أوروبا في خضم أزمة هوية وإنها بحاجة لمشروع جديد، حسنا، لقد وجدت أوروبا مشروعا، وأن نكون أوروبيين يعني أن نواجه معا كارثة البربرية، وأن ندافع عن قيمنا ونمط حياتنا وطريقتنا في العيش معا برغم الفروق بيننا.عدو واحدوالوحدة مطلوبة أيضاً على مستوى العالم الغربي كله، وتؤكد تصريحات الرئيس أوباما بعد هجمات باريس أن ما يوحد أوروبا والولايات المتحدة أكثر جدا مما يفرقهما، فنحن في ذات القارب، نواجه نفس العدو، وهذا الشعور بالوحدة يجب أن يتجاوز العالم الأوروبي والغربي، لأن تنظيم الدولة الإسلامية يهدد بلدانا مثل إيران وروسيا، ناهيك عن تركيا، مثلما يهدد الغرب، إن لم يكن أكثر.وعلينا بالطبع أن نكون واقعيين، فتحالفنا الذي تمليه الظروف مع هذه الدول يعني التغلب على المشاكل القائمة بيننا، ولذا، تأتي بعد الوضوح والوحدة، حاجتنا إلى الحزم لمواجهة تهديد الدولة الإسلامية في العراق والشام وللدفاع عن قيمنا على حد سواء، وبشكل خاص الالتزام بسيادة القانون.يتوقع تنظيم الدولة الإسلامية منا مزيجاً من الجبن ورد الفعل المبالغ فيه، وغاية مراده إثارة صدام حضارات بين الغرب والعالم الإسلامي، تلك الاستراتيجية التي يجب الا نقع فريسة لها.بيد أن الوضوح يحتل المكانة الأولى، فحين تُهاجم باريس كما حدث يوم الجمعة الماضية، فلا حديث إلا عن الحرب، ولا يرغب أحد في تكرار أخطاء الولايات المتحدة في ظل حكم الرئيس جورج دبليو بوش، بيد أن استخدام تلك الأخطاء كذريعة لتجنب مواجهة العالم على ما هو عليه الآن لن يكون إلا خطأ من نوع آخر، فعلى رد فعل أوروبا أن يكون قويا دون أن يحيد عن سيادة القانون، فنحن منخرطون في معركة سياسية، قبل أي شيء، مع الدولة الإسلامية، معركة يغلب فيها حبنا للحياة حبهم للموت.* دومينيك مويزي | Dominique Moisi ، أستاذ بمعهد الدراسات السياسية بباريس وكبير مستشاري المعهد الفرنسي للشؤون الدولية، وأستاذ زائر في كنجز كوليدج بلندن.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»