منذ سطوع الخطاب الديني الأصولي وبداية تغلغله في المجتمعات الإسلامية، وبصورة خاصة عقب هزيمة 1967 على جبهات مصر وسورية والأردن، والعقلاء من بيننا يحذرون من عواقبه الخطيرة في منطقة يضرب في أعماقها النزاعات المذهبية والاقتتال العقائدي، وتاريخها مشحون بالدم بعيداً عن التاريخ المجمل والمنمق الذي تحمله الكتب المدرسية والبرامج الإعلامية.

Ad

وتوقع كثير من المطلعين على تداعيات تاريخ المنطقة وتجارب الأمم أن هذا النهج سيصل حتماً إلى قتال سيسيل أنهاراً من الدماء، نراها اليوم في سورية والعراق واليمن وليبيا، وسابقاً في الجزائر، وكادت تجري في مصر.

الأنظمة الحاكمة والسياسيون الانتهازيون وصائدو الفرص وجدوا في الموجة الدينية الأصولية فرصة ممتازة لتعزيز وجودهم ومحاربة المطالبين بالدولة المدنية العصرية التي تحاسب وتتداول فيها السلطة، والغرب وجد فيها وسيلة لتجنيد مقاتلين ضد الاتحاد السوفياتي لإسقاطه، واشتعلت شرارة ما سمي بالصحوة الإسلامية التي خربت وانقلبت على أكثر من 70 عاماً من عمر الدولة المدنية في مصر والعراق وسورية... إلخ.

وما زاد الطين بلة استيلاء أصحاب العمائم في إيران على ثورة الشعب الإيراني، وتحويل إيران إلى دولة ثيوقراطية ذات فكر يُعنى بتصدير الثورة خدمة لمشروع قومي فارسي، فاكتمل جناحا طائر التطرف المنجلي للمذهبين، الذي بدأ يحصد منجله الرقاب بداية في الحرب العراقية الإيرانية (1979-1988) تحت مسميات "القادسية الجديدة" من الجانب العراقي و"خونينشهر" على المعركة الكبرى من الإيرانيين، بينما كان بقية المسلمين في أفغانستان يستنزفون السوفيات ويسقطونهم من أجل عيون العم سام.

في كل هذه المعمعة لم يكن هناك مصلحة أو هدف لشعوب المنطقة سوى أن يستقر حاكم على كرسيه أو ينتصر طرف على الآخر في حرب العمالقة الباردة، بينما يحكي السني الأصولي قصصه عن "كرامات" المقاتلين في أفغانستان، ويتفاخر الشيعي الأصولي بتفجير مبنى المارينز في بيروت، ولكن لم يكن هناك حديث عن أمن ورفاهية المواطن المسلم في كابول أو بيروت أو طهران مقارنة بنظيره الياباني والألماني والكوري الجنوبي، ولم يكن أحد مكترثاً بالآلاف التي تضمها القبور يومياً من المسلمين.

معظمنا عاش أوهام مشاريع الأصوليين من المذهبين بعناوينها من الخلافة في أفغانستان ودولة ولاية الفقيه في فارس وما يحدث فيها من اضطهاد للأقليات وقمع المعارضين إضافة إلى المستوى الاقتصادي الذي يدفع الإيرانيين إلى الهجرة وعبور البحر سباحة بحثاً عن الرزق، ونرى اليوم اللاجئين يفرون من الهيمنة الإيرانية في سورية ليكونوا تحت ولاية الأوروبيين.

النار مشتعلة في العراق وسورية واليمن وترتفع فوقها رايات وشعارات الدولة الإسلامية ولبيك يا زينب وهيهات منا الذلة، وهي الآن قريبة منا و"حاشنا طشارها" في رمضان الماضي.

ورغم كل التجارب المريرة من حولنا، فإن الدولة في الكويت لم تأخذ العبر ومازالت تراعي وتهادن الأصولية في تعليمها وإعلامها ومناصبها، وهو أمر اعتدنا عليه، ولكن المفجع أن بعضاً ممن ينعم بالأمن في البلد في وسط حمام الدم السائل في المنطقة، مازال ينجذب إلى مشروع الأصوليين بمقلبيه السني والشيعي، ولا يتعظ مما يراه من قتل ومهاجرين يغرقون ويعانون ويهانون، فترى ذاك الكويتي يتبرم إذا انتقدت أفعال "داعش"، وكويتياً آخر يعبس وجهه إذا شجبت ما يفعله ملالي إيران من تدخلات في المنطقة!..

فمتى يعي هؤلاء الكويتيون جميعاً أن مشاريع الأصولية هي مشاريع الدم والخراب وأن مشروع المواطنة هو الخلاص، ويقول الجميع: "أخي السني... أخي الشيعي لست معنياً بمعتقداتكما بل بمواطنتكما".