عنوان طويل لكتاب رحلات إبراهيم المليفي، الذي سجل فيه سفراته الست بحثاً عن الآثار المتبقية من الوجود الإسلامي في المناطق الأوروبية، مثل الجزر المهمة في البحر الأبيض المتوسط، والبوسنة والهرسك.

Ad

هذه الرحلات، أوفدت من قبل مجلة (العربي) ونُشرت فيها، ثم جمعت ونشرت في كتاب حمل العنوان السابق ذاته، الجميل في هذه الرحلات تلمّسها وتتبّعها الوجود العربي الذي كان هناك، وطمس بفعل الإنسان أو الزمن، أي بتعمد تم محو الآثار العربية المتمثلة في معمار المساجد وطراز بناء المدن إثر انهيار الحكم العربي فيها، وتهجير العرب منها وتنصيرها، وما بقي بعد ذلك اندثر بفعل الإهمال والتآكل بمرور الزمن عليه.

الكاتب يفتتح رحلاته بإعادة شريط ذكريات مآسي حرب البوسنة والهرسك، التي عايشنا أوجاعها في تسعينيات القرن الماضي بكل فظاعتها وشراستها وقسوة مجرميها، ذكرتني بذات الأوضاع التي حدثت في الكويت إبان الغزو الصدامي لها، فالحرب هي الحرب بكل قذارتها، وكل مبرراتها تتشابه في كل أدوارها، وغالباً الموقع الاستراتيجي يشكل الخلاف والاحتلال والحروب والتمزق.

الكتاب كشف أموراً ومعلومات كثيرة غائبة عن معرفتي لها، فمثلاً في مقابلة معه قال أستاذ اللغة العربية في كلية الفلسفة بجامعة سراييفو الدكتور أسعد دراكوفيتش: "نحنُ في البوسنة لا نعتبر اللغة العربية لغة أجنبية بل هي من صميم تراثنا، خصوصاً في هذا الوقت، الذي نأمل فيه زيادة حجم التبادل المعرفي بيننا وبين العالم العربي"، كما قال رجال الدين، إنهم في البوسنة والهرسك ليسوا بحاجة إلى من يعلمهم أصول الدين من جديد، فالإسلام راسخ في قلوبهم وعقولهم طوال خمسة عقود، لم تمحه الشيوعية أو تنجح حملات التنصير في تحويلهم عنه".

أكثر ما لفت نظري حجم وقوة الإسلام لديهم، فلا شيء يستطيع أن يمحوه أو يغيره أو يعدل فيه، وهو يبدأ من أساس بنية قوية حيث يركز على تعليم الفتيات لأنهن أمهات المستقبل، وهذه هي اللبنة الذكية في التربية الإسلامية لديهم.

أعجبتني المقابلة التي أجراها الكاتب إبراهيم المليفي مع دكتور حارث سيلادزيتش، الذي تولى أخطر المهام أيام الحرب، ولعب مع الرئيس والمفكر الراحل علي عزت بيغوفيتش دوراً مهماً في إخراج البوسنة والهرسك من مستنقع التقسيم العرقي والديني، وهي مقابلة طويلة سأقتطف منها نهايتها الرائعة، حيث برر لأعضاء مجالس إدارة صحيفتي "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" وقناة "سي إن إن" وغيرها، الذين سألوه عن الشيء الذي يدفعهم إلى الوقوف بجانبهم؟ فرد عليهم بجواب في منتهى الذكاء والحكمة والدهاء: "هناك سببان الأول أخلاقي، والثاني سياسي، وسأبدأ به لأنه يهمكم أكثر! إن نجاح الفاشية المتمثلة في الصرب داخل أوربا تعني أن الضحية التالية بعد المسلمين هم اليهود، ما دمنا سكتنا عن عمليات الإبادة الجماعية التي يقومون بها الآن، والسبب الثاني هو موقفنا نحن البوسنيين تجاه اليهود، الذين طُردوا مع المسلمين من إسبانيا، حيث احتضناهم وعاشوا معنا قروناً عدة، إلى أن جاء هتلر وطردهم من يوغسلافيا وليس نحنُ". وحولت هذه المقابلة مواقف الكثير من الصحف والقنوات الأميركية اليهودية تجاه قضيتهم وساعدت في إنهاء الحرب بسرعة.

الكتاب وجبة معرفية ثقافية سياحية مبهجة مكتوب بلغة رائقة متزنة سلسة وسريعة مثل عبورها في طرق هذه المدن على عجل، وأكثر رحلة توقفت عندها هي مدينة "مالطا"، التي أجهلها تماماً ولم أزرها قط في حياتي، ومن جراء ما دوّنه الكاتب عنها قررت زيارتها، فهو يقول: "تعاقب الغزاة على أرض الصخور المدببة، أو "مالطا"، فارضين على حياتها الطابع الحربي، وكل من يستولي عليها يضيف إليها، ظناً منه أنه سيطيل بقاءه فيها، حتى تحولت مالطا إلى وطن يعيش في قلعة كبيرة"، ويرى أنها مدينة محظوظة لأنها استطاعت الحفاظ على كيانها طوال الحقب الاستعمارية، ولم تبتلعها الدول القوية المتاخمة لها وأولاها إيطاليا، فهل يا ترى مالطا أقوى من سردينيا، أو كورسيكا التابعة لفرنسا؟ أو حتى صقلية التابعة لإيطاليا ؟"

حقاً إنها دولة محظوظة! شوقتني لزيارتها في القريب العاجل.

"لا أدري هل بت ليلتي في مدار سكناه، أو ربما في فضاء سريره؟"

الجملة السابقة كتبها عن روندة المدينة الإسبانية التي كانت يوماً ما للعرب.