مَي منسّى في «حبر تعشقه الكلمة»... امرأة للكلمة على شرفة الخلود
قلّما نجد في مجتمعنا الذكوريّ الحبر أيضاً، حامِلة قلم من سلالة الفراشات النادرة، تعطّر الكلمة برحيق أنوثتها، وتبني لها رصيفاً شهيّاً بين العقل والقلب، معلنةً العمر كلّه نذراً لها، نذراً مؤبّداً لا يرضى بأن ينتهي قبل الأبد بخطوة واحدة. بإشراف الأستاذ بسّام برّاك، وباهتمام من الجامعة الأنطونية ودار نشرها، كان كتاب «حبر تعشقه الكلمة»، وفيه كلمات تحاول أن تكون مرايا، فتقول كلّ مرآة ما يمكن أن تقوله من وجه مي منسّى الكثير، هذه المرأة التي يقف وراءها تاريخ يحترف صناعة أقواس القزح حين الغيم على سواد ورماد، ويعتمر تاجاً مرصّعاً بلآلئ المحبّة، لأنّ مي «ضيّفت» من محبرتها الخصبة كثيرين، كثيرين... ولأنّها تفرّغت للعطاء لم يكن لديها الوقت لتأخذ.
عند باب كتاب «حبر تعشقه الكلمة» يقف بسّام برّاك حاملاً سلّة ورد، وظلّ كلّ وردة كلمة؛ «هل العشق أنتِ في كلّ ما كرّستِه للورق مذ كان الورق ملمساً حريراً تزيّح صفحته يراعتك بخطوط الفكر الأولى». وإلى مَي «النهار» يمضي برّاك دالاًّ على امرأة نصبت لها خيمة عمر على صفحات جريدة ساهمت في صناعة زمن لبناني سياسة وثقافة وحرية وإنساناً: «... زمن مي منسّى، زمن «النهار» حيث جبين غسان تويني يضيء حَبريّة الكلمة في كفر وطن شلّعت الحروب جرائده»... ولا يفوت برّاك أن يذكر مي الناقدة، التي تلوذ ببلاغة الصدق قبل بلاغة الكلمة بعيداً من كلّ جملة تحتضن سكّيناً: «نعم، فراشة الكلمات أنتِ والنقد المتمرّي بالصدق لا بالتجريح، بكلمات الرقيّ واللهفة إلى الأعلى»...أمّا الأب جرمانوس جرمانوس، رئيس الجامعة الأنطونيّة، فأعلن أن مي قِبلة الكثيرين من حملة الأقلام لأن قلمها مروّس، ذو رأس لا تعلو عليه أسوار حبر: «... أديبة تلتقي حولها الآراء وكأنّها رأي، وتجتمع في حضرتها الأقلام وكأنّها قلم. فالنقّاد والصحافيّون والروائيّون والفنّانون كلّهم يجمعون على أنّ قلم هذه السيّدة «يلكز» حبرهم برأسه»...ومع الأستاذة الجامعيّة رندا الأسمر إضاءة خاطفة على مي منسّى الروائيّة الآتية من ظلال التساؤل، المتجسّدة يداً لا تتعب من طرق أبواب الحياة الكثيرة: «كيف لي أن أنبش مفاتيح الروايات التي سَبَرت أعماق روائيّة تنبض بالتساؤلات حول معنى الحياة؟»... وتقرّ الأسمر بأن منسّى تخرج أبطالها من حدائق الروح والقلب، فهي الروائيّة التي تعيد صياغة حياتها بالكلمة، لا التي تشتري من الخيال وحده أسماء ترمي بها بين مدّ الحياة والموت وجزرهما: «تسير بقلمها على دروب شخصيّات وأبطال تختارهم حسب الرؤيا التي تسكن روحها وقلبها وكيانها ونهارها وليلها، فترسم لكلّ منهم حياة مليئة بالحياة، وموتاً مليئاً بالموت»... وإلى أعماق مي يتسلّل الفنّان جهاد الأندري، ويختصر وجعها برمزية شفافة إذ رآها الطليقة بجناحين من ألم البياض، بينما الآخرون يحاولون الإساءة إلى كلّ بياض: «الكلّ أسرى. كلّ في زنزانته... سجينك حرّ حقيقيّ. أدخل نفسه في نفق أبيض بحرّيّة فأدخلناه نحن الزنزانة وبقي حرّاً... هكذا مصير الشرفاء وآخر الفرسان»...ومن دار «النهار»، مدّت شادية غسّان تويني صوتها إلى مي، مباركة آلامها، محيّية إيّاها وهي تتسلّق صلبانها برشاقة على فرح وإبداع وجمال: «... يداً عفوية تجتذب موهبة المعنى. وتعبر المحن، وتنتصر عليها، بعد أن تضفي عليها نعمة مقاومة الألم بسعادة غامرة وبحبّ لا يوصف»... ويجد المسرحي المتعدّد جلال خوري مي منسّى صاحبة نقلة نوعية في الكتابة عن الفن وهي العارفة على محبة والكاتبة على خلق: «أمّا مع مي منسّى فنحن أمام نقلة نوعيّة لمقاربة الفنّ وتقييمه... ترتكز على جانب معرفة عميقة وخلاّقة للعناصر الفنية بعيداً عن تلقين الدروس العقيمة. وتعتمد الرؤية الشاملة والحدسيّة للتعبير»... ويصل خوري إلى اعتبار كلام منسّى عن الإبداع موازياً له: «نحن أمام صيغة مبتكرة للشهادة على الفن تحوّلت معها وبفضلها إبداعاً قائماً بحدّ ذاته».ومع الكاتب والمفكّر شوقي خيرالله، ظهرت منسّى روح حقيقة موؤودة، إذ هي مدّت يدها إلى اللغة العربية وعبقريّتها وساهمت في انتزاعها من يدي الهزيمة: «بأمثالك يا مي، تردّ الروح إلى حقيقة موؤودة تحت سنابك شعوبيّة وعجمة... أليس الألق والبيان والتولّه صنو الألوهة؟!» ويحفر خيرالله عميقاً في التاريخ ليشكر منسّى باسم أجيال، لأنّها من أهل الأمانة الذين يحفظون الوديعة في الصدور لا في النعوش، ويزيّنونها بذهب الذاكرة لا بضباب النسيان: «أشكركِ... باسم ستّين قرناً من بلاغة عربيّة ما انفكّت تتسامى وتتسامق نحو الأفضل... تجعلنا نؤمن أنّ الوحي سيظلّ يتصعّد كما سبق أن تنزّل»... التقاط النغموتأتي كلمة الأديب عيسى مخلوف لتضيء على معرفة مي، لا سيّما الموسيقية، فتغدو قادرة على التقاط النغم بالحرف وجعل الكلمات منتظمة وتراً من حبر حين القلم ريشة وناقر الوتر صانع ليله وناسه والمزاج: «من جهة الموسيقى تأتي مي منسى، وهي تتعقّب أثرها منذ زمن بعيد. تستمع إليها وتكتب عنها وتمرّغ وجهها بينابيعها العذبة. تنتقل هذه الموسيقى إلى الحروف التي تكتبها، تتداخل فيها، تؤاسي وتبلسم»...وقد عانى الأديب سهيل مطر صعوبة وحيرة حين أراد أن يميّز مي مسنى من القلم الذي يحترف نشوة السكر ونزق التمرّد: «صعب أن تميّز بين مي منسى وبين القلم الذي يسكر أو يتمرّد بين أصابعها، وموجع أن تفصل بين شخصية مي وبين كتاباتها». ولفت مطر إلى مي معلّمة للكثير من حملة الأقلام، إذ تركت من ظلالها ظلالاً على أوراق كثيرين، وهي المناضلة كلمة وجسداً برقّة الغيمة وهي تحطّ على زند سماء: «هي المعلّمة... لكثيرين ممّن زاملتهم أو رافقتهم في مهنة البحث عن المتاعب... تمرّ، جسداً وقلماً وحبراً، فتكاد لا تراها، كما لو أنّها ظلّ. كثيف حضورها على رقّة ودعة كما لو أنّها غيمة ماطرة»...مسك الختاممسك ختام «حبر تعشقه الكلمة» أتى مع منسّى التي لم تستطع سحابة نصف قرن إشباع الجوع الأبيض في جسد ورقتها النبيل: «ورقة نهمة أكولة، أُطعمها منذ نصف قرن». وفي ظلّ هذا الجوع كانت منسّى تبني قصوراً لها عالية وتنتمي إلى جغرافية يرفع الحبر جبالها ويبسط سهولها مكتفية بفرح الكلمة: «في الورقة بنيت مسكني، وجعلت عليها جغرافيتي، وفي مقال احتفال». ورأت منسّى أن الكتاب الذي يضمّها بين دفّتيه بعض من ذاكرتها، بعد ربع قرن من النحت بأقلام دافئة تعد بأنّ حامل القلم على خصوبة وجمال يعبر الموت بلا موت ويبقى مخاصراً الحياة على شرفة الخلود. «بعد ربع قرن من النحت في الكتابة اليومية جاء دعامة لذاكرتي ووعداً لديمومتي، فمن كتب كتاباً مشى واثق النفس مطمئناً إلى صمود حجارة بيته».نعم، «توحّم» الحبر على كلمة مي منسّى، وهي التزمت برجل لا يعاد طيلة العمر، رجل، اسمه: الحبر.