حديث الكبار هو ما يقوله المبدعون الحقيقيون الذين لا يتوارون خلف الشعارات الطنانة الزائفة، وهم يعرفون قدر أنفسهم، ولا يبالغون في إطلاق المصطلحات المعقدة، ولا يتماشون مع التسميات التي تطلق عليهم أو على أعمالهم، ففي حوار أُجري مع «غابريل غارسيا ماركيز» لفت نظري ما قاله عن الواقعية السحرية التي ميزت أعماله ومن صميم كتابته، إلا أنه قال عنها وهو يتكلم عن روايته «الجنرال في متاهته»: «لقد تطلب مني الأمر ثلاث سنوات من الكتابة وثلاث سنوات من البحث لكتابة هذه الرواية، فرواية الجنرال تتميز بأهمية كبيرة مقارنة ببقية أعمالي الأدبية. وهذا يثبت أن كل أعمالي الأدبية تتطابق مع واقع جغرافي وتاريخي، لا يتعلق الأمر بالواقعية السحرية وبكل المسميات التي يتلفظون بها. حين نقرأ رواية الجنرال «سيمون بوليفار» ندرك أن كل البقية تتركز على نحو ما على قاعدة وثائقية وتاريخية وجغرافية الجنرال هو العقيد القائم على أسس تاريخية في الواقع لم أقم بكتابة سوى كتاب واحد، الكتاب نفسه المستمر في إثارة التأويلات».

Ad

هذا الكلام المتواضع رغم عظمة كاتبه يبين أن الواقعية السحرية ليست تكلفاً في كتابة التهاويل اللامنطقية والأحداث الغرائبية التي لا يربطها رابط إلا هدف وحيد يصوب إلى فكر القارئ لإتخامه بجرعة من اللامعقولية التي استمدت أساسها من فكرة الواقعية السحرية، التي يظنها بعض الكتبة أنها على هذه الشاكلة من التخاريف المزعوم انتسابها إلى الواقعية السحرية لماركيز أو الأعمال الخالدة لألف ليلة وليلة، وها هو ماركيز يثبت لهم أن واقعيته ليست إلا جهداً كبيراً في البحث والتنقيب في الكتب التاريخية والوثائق حتى يصل إلى ما يريده من معلومات  يبني عليها عمله الروائي، وحتى تصرفات الشخصيات وسلوكياتها لم تأت من خيال فالت في شطحه بعيد عن أدنى معقولية مثل ما يكتبه بعض من يتخيلون أن هذه هي الواقعية السحرية.

ماركيز في جوابه على السؤال الآتي : ألم يفرض عليك التاريخ قيوداً وحدوداً؟

قال: «سيكولوجية الشخصية، وسلوكها، وشخصيتها، كل هذا نابع من التخييل القائم على الكثير من الوثائق، ليس هناك معطى تاريخي واحد يفتقر إلى الشهادة وإلى التدقيق في ترتيب الوثائق. بانطلاقي من هذه القاعدة، كان بمقدوري أن أخترع بكل سهولة كل ما تفتقر إليه الوثائق».

وهذا يبين بوضوح تام أن أحداث وشخصيات ماركيز كلها مستمدة من التاريخ، وهو يعيد تركيبها بتخييل يعتمد في جوهره على الوثائق لا على مجرد خيال لا يعتمد على أي منطق ولا واقع.

في تاريخ البشرية الكثير من الوقائع والأحداث والشخصيات التي تفوق واقعها على أي تخييل كان، ومن شدة غرائبيتها ولا معقوليتها باتت مثالاً للواقعية السحرية، فواقعها الخيالي غير القابل للتصديق منحها قوة السحر الذي تجاوز المعقول، وهذه الشخصيات هي منبع الإلهام للفنانين والكتاب الكبار.

وفي عالمنا العربي هناك الكثير من الأحداث والشخصيات التي امتلكت حياتها الواقعية السحرية، فمثلاً حكاية مذبحة المماليك في قلعة محمد علي عندما جُمعوا على دعوة غداء ثم قُفلت جميع بوابات القلعة وقتلوا جميعهم فيها، هذه الحادثة تشبه مشهد دعوة جميع أعداء البطريرك على العشاء في رواية «خريف البطريرك» لماركيز، الذين تم حجزهم وتقديم زميلهم مشوياً على مائدة الطعام ليأكلوه.

الشخصيات وسلوكياتها وأحداثها في العالم العربي تتفوق في غرابتها وسحريتها الواقعية على كل ما كتبه كتاب أميركا اللاتينية، وسواء كانت شخصيات من تاريخ قديم أو من تاريخ معاصر، فكلها امتلكت غرائبية تفوق سحر الخيال، ومن الشخصيات المعاصرة التي تثير خيالي وتصلح للكتابة الواقعية السحرية شخصية العقيد معمر القذافي سواء في حياته أو نهايته، وكل خطاباته وحتى طريقة لبسه وكلامه، فهو شخصية غريبة امتلكت من السحر ما يفوق الواقع ويتميز عليه باللامعقول، وأيضاً هناك شخصية صدام حسين بكل تناقضات جبروتها وبقصصه التي فاقت منطق التقبل العقلي لها، وأيضا الصورة الشكلية له المنحوتة في صخر واقع أشد من السحر، ولو امتد العمر بماركيز لربما اختار شخصيات من تاريخنا العربي القديم أو المعاصر ليكتب عنها، فليس هناك تاريخ ممتلئ بواقعية سحرية تفوق على تاريخنا العربي المحتاج فقط إلى غواصين في التاريخ مهرة ينتشلون الوقائع وأبطالها من سبات النسيان.