تشابك تركيا السوري
لقد أثبتت تركيا في الآونة الأخيرة قدرتها على التغلب على التحديات المعقدة، واستعادت بحكمة علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل بعد خمس سنوات من القطيعة في العلاقات بين البلدين، ونظرا لهذا التطور لا يمكن استبعاد المصالحة مع روسيا، ومن شأن هذا النهج، تسهيل إدارة مجموعة من المخاطر التي تفاقمت بسبب النزاع السوري.
في نهاية سنة 2015 اتخذت خطوات جديدة، وإن كانت صغيرة ومؤقتة، نحو إنهاء الحرب في سورية، وقد اعتمد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار 2254، معربا عن تأييده للانتقال من الصراع، وتعيين المجموعة الدولية لدعم سورية موعدا لاجتماعها المقبل، المقرر عقده الشهر المقبل، ولكن المجموعة تضم حلفاء وخصوما، على سبيل المثال المملكة العربية السعودية وإيران، معنى هذا أن تحقيق التقدم سيكون تحدياً. الآن، يبدو أن بلدين آخرين، وهما تركيا وروسيا، يتوجهان إلى أسفل الطريق، أي إلى العداء المتبادل، تركيا التي لديها في سورية تحديات وفرص لقربها منها، يمكن أن تلعب دورا مهما وخصوصا في التأثير على عملية السلام بالمنطقة، لكن إسقاط تركيا طائرة حربية روسية على حدودها مع سورية الشهر الماضي حفز التدهور السريع والحاد في العلاقات الثنائية، مع فرض الكرملين عقوبات اقتصادية انتقامية.روسيا، من جانبها، تواجه واقعا صعبا للحفاظ على وجود عسكري نشيط في الشرق الأوسط، فجهودها لتعزيز نظام الرئيس بشار الأسد (وبالتالي لتعزيز دور خاص بها على طاولة المفاوضات) يضعها في خلاف مع بعض الدول، بما في ذلك تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي التي تريد رحيل الأسد. والمشكلة بالنسبة إلى تركيا هي أن مصالحها لا تهدف إلى شن الحرب ضد الدولة الإسلامية أو حتى إلى إبعاد الأسد عن السلطة فقط، بل تهدف أيضا إلى ضمان أن الجماعات الكردية، مثل حزب الاتحاد الديمقراطي من سورية، الذي تربطه صلات وثيقة مع حزب العمال الكردستاني في تركيا، لا تقوم بتوطيد السيطرة على الأراضي في سورية، الآن أو خلال مرحلة الإعمار بعد الصراع.
منذ فصل الصيف عادت أحداث خطيرة من العنف إلى الواجهة أنهت وقف إطلاق النار القديم الذي دام عامين على نحو فعال بين حزب العمال الكردستاني والحكومة التركية، وبرز الصراع الكردي في تركيا من جديد الذي يعد بمثابة بيضة ساخنة، مما أثار مخاوف بشأن تأثير حزب الاتحاد الديمقراطي السوري على السلطة، كما أدى الاضطراب السياسي الداخلي المستمر، الذي يتجلى في تنظيم الانتخابات البرلمانية مرتين في ستة أشهر فقط، إلى تعقيد الوضع في تركيا أيضا.غير أن معارضة تركيا لتمكين الأكراد يعد مصدرا للتوتر مع حليفتها التقليدية، الولايات المتحدة، والتي تعتقد أن الأكراد هم القوة الوحيدة على الأرض القادرة على قتال الدولة الإسلامية. العداء المتجدد بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني من شأنه تقويض مصلحة تركيا في نجاح مفاوضات السلام السورية.وسط هذه التحديات هناك بصيص أمل: علاقات تركيا مع الاتحاد الأوروبي قد تحسنت في الآونة الأخيرة بشكل ملحوظ، وقد عزز تأكيد أوروبا حل أزمة اللاجئين حافز التعاون مع تركيا، وهذا يخلق فرصة مهمة لاستئناف المفاوضات لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وهو احتمال كان قد انطفأ تقريبا.ولاحظت المفوضية الأوروبية في تقريرها الأخير حول تقدم تركيا الكبير نحو الوفاء بمعايير الانضمام "أوجه قصور كبيرة" تتعلق بالسلطة القضائية، وحرية التعبير، وحرية التجمع، ودعا التقرير إلى استئناف الجهود الرامية إلى حل القضية الكردية، ولكن الآن تحسن المزاج بشكل ملحوظ بالفعل، وقد وافق الاتحاد الأوروبي وتركيا على خطة عمل مشتركة تنطوي على تحرير التأشيرات، وهناك حديث عن احتمال تطوير علاقات ثنائية مميزة. وعلاوة على ذلك كانت هناك خطوة واعدة إلى الأمام بشأن قضية قبرص، التي كانت عقبة منذ فترة طويلة لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، فقد استأنف الزعماء القبارصة اليونانيون والقبارصة الأتراك المحادثات في شهر مايو الماضي، ولدى تركيا الآن فرصة لاتخاذ خطوات حاسمة نحو توحيد الجزيرة. باختصار إن أزمة اللاجئين قد تجعل الاتحاد الأوروبي يميل تجاه تركيا، لكن هزيمة الدولة الإسلامية لا تزال تمثل أولوية قصوى، وهذا يتطلب التفاوض مع روسيا، وهو الأمر الذي اعترف به أعضاء الاتحاد الأوروبي، ومنذ هجمات باريس في نوفمبر الماضي تكثفت الجهود المبذولة لتعزيز التعاون ضد الإرهاب، بما في ذلك بين فرنسا وروسيا، وإذا أرادت تركيا مواصلة تحسين علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي فلا بد لها أن تشارك أيضا في هذه الجهود.وقد أضر التوتر بين تركيا وروسيا أيضا موقف تركيا نفسها في سورية، بما في ذلك العقوبات الاقتصادية، وقامت روسيا بتجهيز طائراتها الحربية بصواريخ جو-جو، مما يجعل الأمر أكثر صعوبة بالنسبة إلى تركيا للدفاع عن مجالها الجوي والحفاظ على نفوذها على الحدود السورية الشمالية الشرقية، وهي المنطقة التي تعتبرها حاسمة لمنع حزب الاتحاد الديمقراطي السوري من عبور الفرات إلى الغرب.ينبغي لتركيا التفكير في موقفها، ولا يمكن أن تخاطر، وأن ينظر إليها كبلد يهدد الحريات الأساسية، مما سيؤدي إلى اتساع الفجوة مع الاتحاد الأوروبي، وهناك عاملان سيساعدان في الحفاظ على مكانتها باعتبارها حليفا أساسيا للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي: تحسين العلاقات مع الأكراد والتقدم نحو تسوية في قبرص، ويمكن للقرارات التركية في عملية السلام السورية أن تدفع أو تعيق التقدم نحو تسوية.وهناك عوامل لا تعدّ ولا تحصى في موقف تركيا تجعل صنع القرار صعبا للغاية، ولكن هناك طريقة للخروج من التشابك الحالي: النهج الاستراتيجي الذي يجعل دور تركيا في مكافحة الدولة الإسلامية وتقاربها مع الاتحاد الأوروبي وإدراك أهمية استقرار سورية في أقرب وقت ممكن واضحا. لقد أثبتت تركيا في الآونة الأخيرة قدرتها على التغلب على التحديات المعقدة، واستعادت بحكمة علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل بعد خمس سنوات من القطيعة في العلاقات بين البلدين، ونظرا لهذا التطور لا يمكن استبعاد المصالحة مع روسيا، ومن شأن هذا النهج، ولا شك، تسهيل إدارة مجموعة من المخاطر التي تفاقمت بسبب النزاع السوري.* خافيير سولانا | Javier Solana ، الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية سابقا، والأمين العام لمنظمة حلف شمال الأطلسي ووزير خارجية إسبانيا سابقا، وهو حاليا رئيس مركز الاقتصاد العالمي والجغرافيا السياسية وباحث وخبير مبرز في معهد بروكينغز.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»