عادة ما أكون على شيء من حماس حين أنتصر لفكرة، أو حين أعارض أخرى. وهذا شأني حين أحب قصيدة، أو عملاً موسيقياً، أو لوحة أو فيلماً... إلخ. وشأني حين أجد ما يؤخذ عليها. وأعرف أن حماسي ليس طبيعة خالصة وحدها، بل هو توجه عقلي أيضاً. نحن نحتاج إلى الحماس لا لكسب الآخر، بل لتحقيق جدوى في التواصل. والعمل المخلص الصادق عادة ما يتصف بحرارة الحماس رغبة في أن يصل إلى الآخر بيسر. فالحماس هنا صنو الوضوح. والفكرة المتوقدة عادة ما تكون حارة وواضحة.

Ad

ولكني في رفض نص ومعارضته إنما تنصرف حماستي لهذا الرفض والمعارضة للنص وحده، ولا تتجاوزه إلى صاحب النص كإنسان ينطوي على حرمة عالية. المبدعون في كل فن يتميزون عادة بتفاوت مستويات أعمالهم، فكم أحببتُ قصيدة للسياب حد الوله، وأنكرت عليه أخرى حد الاستهجان. وكم أكبرتُ قدرات المخرج السويدي بيرغمان في فيلم، واستثقلتها في آخر. على أني في أحيان أخرى أنكر نتاج وأفكار وتوجه كاتب أو فنان برمته. ولا يفتقد إنكاري هذا الحماس. وهذا الحماس للإنكار الجذري مشروعٌ لأنه يعتمد بدوره بصيرة متجذرة هي الأخرى في داخلي. فأنا، على سبيل المثال وحده، قد أجد "الأغراض الشعرية" لعنةً نزلت بالشعر العربي ولظروف موضوعية عديدة، وأزعم أن هذه "الأغراض" مازالت فاعلة في الشعر العربي اليوم، وللظروف الموضوعية ذاتها. وهي تتخذ أقنعة خادعة شتى، ولكني لا أجد رأيي هذا هوساً ولعبةً ذهنيةً واعتباطاً. بل أضعه على قاعدةٍ محكومة بمنطق، وبالغة الوضوح. ولذا أُنكر على ناقد الشعر ومتذوقه أن تهزه أريحيةٌ حين يقرأ قصيدة للمتنبي في هجاء الاخشيد. أو قصيدة لعبدالرزاق عبدالواحد في مدح صدام حسين، أو قصيدة للبياتي في هجاء الشعراء "العوران والخصيان...".

ولكن المأزق الذي أتعرض له حين أقابل هذا الشاعر أو هذا الناقد والمتذوق، على أثر معارضتي وإنكاري لهما، هو نتاج خشيتي من سوء الظن. وهي خشيةُ بصيرة داخلية يقِظة من أن تُخلط الأوراق بين مقدار احترامي للكائن الحي في الإنسان، وبين إنكاري ومعارضتي لقدرته أو أفكاره. إن شعوري بالأسف والحرج مبعثه انعدام رغبتي الكلية في الإساءة الشخصية. فأنا أعتقد أن أفكارَ الكائنِ عرضةٌ لأهوائه، وبالتالي فهي عرضةٌ للتغير والتبدل.

هذا يحدث لي في أحيان متباعدة بسبب ندرة لقاءاتي، ولكنه حين يحدث أشعر بالأسف لحظة أرى تأثيرَ رأيي على مزاج الآخر وموقفه السلبي من شخصي.

نحن جميعا نولّد أفكاراً، ونتحمس لها حين نجدُها لائقة ومؤثرة. ولكن هل يمكن أن نعتمدَ اللياقةَ والتأثيرَ معياراً؟ إن مصداقيةَ الفكرة كامنةٌ في رائحةِ التربة في الفكرة، وفي مقدار تماسّها مع الوجودِ الحي. معظمُ أفكار اليسار الستيني السياسية والأدبية كانت في حينها لائقةً ومؤثرة، ولكن الزمن كشف عن مقدار افتقادها رائحة التربة، ولتماسها مع الوجود الحي. ولم يعد أحدٌ من عصبة "التفكيكيين" أو "النقد الثقافي" العرب يتحدث اليوم باللياقة والتأثير ذاتهما اللذين كان يعتمدهما قبل عشرين عاماً. الحماقاتُ العقائدية اليقينية، متطرفةً كانت أو معتدلة، في ثقتها بالنفس أنضجت في داخلها، وفي سنوات متسارعة، ثعابين من حماقات عقائدية أخرى، أو بدت أخرى، ببشرة مغايرة ما كانت في الحسبان. الشجرة الفارعة الطول ذاتها، ولكن ما يوهم في تكوينها أن بذورها وسمادها الشائب في التربة يختلفان في الشكل والمظهر عن ثمارها في الأفق. على أن الجوهر فيهما واحد.

إن ردود الأفعال الشخصية من الرأي الفكري أو الذوقي غير الشخصي هي التي أضعفت قدراتنا على تحقيق ثقافة التنوع، وثقافة الحرية، والثقافة المتعافية. ولا شك أن لوثةَ اليقين العقائدي، الذي اعتقل العقول منذ عصور، هي التي أورثت التهابَ المفاصلِ في كياننا الروحي والعقلي، بحيث اتسع تأثيرها على كلِّ فاعلية سياسة، وفكرية، وذوقية، وأدبية، وفنية.