جلال برجس: في البادية والريف أصلُ الحكاية... والقصيدة تملكُ أدوات صمودها

نشر في 21-07-2015 | 00:01
آخر تحديث 21-07-2015 | 00:01
No Image Caption
فاز الكاتب الأردني جلال برجس بجائزة «كتارا» عن روايته غير المنشورة «أفاعي النار- حكاية العاشق علي بن محمود القصاد». تحكي الأخيرة، كما يقول، عن روائي فقد روايته في حريق، مستلهمةً القيمة الإنسانية ومتسلَّحة بها مقابل كل ما من شأنه أن يهددها.
برجس الشاعر والروائي الذي تراكمت في دواخله شهوة الحكاية في مسقط رأسه قرية «مادبا» ، يؤكِّد أن توجهاً شعرياً سنشهده في المرحلة المقبلة، وأنَّ في الريف والبادية أصلاً متجذراً للرواية ومناخات متفردة في هذا الشأن. معه الحوار التالي.
فزت بـ{كتارا} عن الرواية غير المنشورة. ماذا ستضيف إلى مشوارك الروائي؟

 إضافة إلى أن الجوائز تكريم للإبداع، كفعل نهوض بالمكون الإنساني، أولاً، وثم للمبدع الذي إن تخلى عن دوره أصاب الأرض لوثة الدوار، فإني أراها كبقعة ضوء تسقط فجأة على المبدع وتبقى ترافقه إينما ذهب وحلَّ. لهذا تجسِّر الجوائز المسافة بين القارئ والمقروء، وتصنع من جانب آخر شكلاً قوياً من أشكال التحفيز على صعيد كتابة الرواية وقراءتها.

يمكنني القول إن {كتارا} عبَّدت لي طرقاً جديدة نحو القارئ، وهذا مطمح أي روائي من وراء الجوائز. الجائزة الحقيقية هي ما بعد الجائزة، ألا وهو القارئ، الذي يسعى إلى العمل المكرَّم، وفي باله توق إلى أن يجد فيه ما كُرم لأجله.

لست من أولئك الذين يؤمنون بأن الجوائز لا تصنع إبداعاً. نعم هي لا تخلق إبداعاً، إنما تشكِّل أحد أهم محفزات الإبداع، ألا وهي تلك الطاقة الكامنة التي تمر بكسل تارة، وتصاب بالنشاط طوراً.

رغم تعدد الجوائز، أراني بكل ثقة أقول إن الكتَّاب ما زالوا بحاجة إلى جوائز أكثر.

هل تعتقد أن الكاتب عموماً بحاجة إلى الاحتفاء به؟ بل هل يسعى إلى أن ينال الرضا إذا صح لنا القول؟

منذ متى في الأصل احتفي بالكاتب العربي لنسأل إن كان بحاجة إلى الاحتفاء به؟ هل تلاشت الصورة النمطية التي ما زالت إلى الآن تصوِّر الكاتب على أنه كائن مجنون وعبثي، بخلاف بعض من روجت لهم مؤسسات ما وسلطات معينة. ثمة من توفي من الكتَّاب برداً على الرصيف، وثمة من تخلى عن مشروعه الإبداعي وهو ينهمك بتدبير شؤونه اليومية.

حالات كثيرة تعبِّر عن بؤس وصل إليه الكاتب العربي الحر المنتمي إلى قضايا الإنسان بمستوياتها كافة. لذلك أرى أن الكاتب العربي بحاجة إلى الاحتفاء به، وبحاجة إلى أن يأخذ مكانته الحقيقية ويصبح أولوية أولى، خصوصاً أن ما من جبهة في هذه الأيام قادرة على الدفاع عن إنسانيتنا المهددة أكثر من جبهة المثقف الذي إن سعى إلى نيل رضا ما، عليه أن يقصد القارئ الواعي.

تسهم الجوائز المالية بتشجيع الإبداع، ولكن ألا تقلص في الوقت نفسه من حرية إبداء الرأي والتعبير بصدق لمصلحة إرضاء توجهاتها؟

من الخطأ أن يؤسس الكاتب لعمله بناء على توجهات جائزة ما، لأن الكتابة الحقيقية ابنة الحرية والفضاء المنعتق من شتى أشكال القيود، وإن فعل ذلك فهو يفقد التصالح مع نصه ومن ثم مع قراءه، فينتج نصاً مبتوراً لا يؤدي إلى شيء، حتى لو عانى الكاتب من عوز مالي شديد، وتاق إلى هامش مالي يجعله يتفرَّغ لكتابته.

 حزت سابقاً جوائز عدة، بغض النظر عن فوزك بكتارا، لماذا أقنعتك، كما ذكرت، في موسمها الأول؟

أقنعتني جداً وراقت لي مفرداتها المتميزة، كما راقت لكثير من الروائيين. إنها الجائزة التي جعلت الروائي الفائز يتخلَّص من سوط الفكرة السائدة بأن الكتابة في العالم العربي لا تجد من يقدرها، وأكدت أن الروائي صار محط احتفاء كونه قادراً على اختزال حياة في حكاية عبرها يمرر إلى القارئ رؤيته للكون ولما حوله عبر مقترحاته الإنسانية. إنها جائزة لم تملِ على الكاتب توجهاً ما، ولم تضع شرطاً سوى الشروط الفنية لأي نص روائي عليه أن يصل إلى القارئ.

هل كنت تتوقع الفوز، خصوصاً أن المتقدمين للجائزة أكثر من 700 كاتب؟

ثمة هاتف داخلي كان يمنحني بعض الإشارات حول فوزي، إنه ذلك الصوت القريب من إيماني بما كتبت وبما اشتغلت عليه لسنين. لكن مسألة الفوز وتوقعنا لها تبقى دائماً محكومة بعوامل عدة أهمها توقعنا الدائم بأن ثمة عملاً آخر أعلى قيمة ويستحق أن يكون الفائز.

هل اطلعت على أعمال فائزة، وما رأيك فيها ككاتب؟

قرأت «مملكة الفراشة» للصديق واسيني الأعرج، و366 للصديق أمير تاج السر، روايتان جميلتان وتستحقان الفوز، ولهما قراء وأصداء في العالم العربي، وفي كل واحدة منهما ما يعول عليه. أما بقية الروايات الفائزة فحتماً سأطلع عليها وأستمتع بعوالمها التي بالتأكيد هي عوالم جميلة وإلا لما فازت.

عمَّ تتحدَّث روايتك الفائزة «أفاعي النار- حكاية العاشق علي بن محمود القصاد»؟

تحكي روايتي عن روائي فقد روايته في حريق منزلي أتى على حاسوب حيث حفظت الرواية. تستلهم الرواية القيمة الإنسانية وتتسلَّح بها مقابل كل ما من شأنه أن يهددها. ثمة أشواك كثيرة في عالمنا، رغم التقدم التكنولوجي، علينا أن نحصدها ونصبر على آلامها كي يتعافى قلب حياتنا التي ما زالت تعاني ثقافة الخرافة، والتطرف بأشكاله كافة اجتماعياً ودينياً. إنها حكاية الحب في مقابل الكره والنور في مقابل الظلام.

{مادبا}... وهلسا

أي مكان في الأردن تستلهم منه طريقة سردك؟

إنه مسقط رأسي «مادبا». ولدت في قرية أوَّل من سكنها جدي، انتقالاً من عالم البداوة وحركتها المستمرة، إلى عالم الريف واستقراره. في هذا المزيج ما بين عالمين، انتميت إلى الحكاية وهي تروى في أيام الحصاد، وليالي الشتاء، وفي المناسبات الاجتماعية، وحتى بين عابري الطرق. في المجتمعات الشعبية، حكايات كثيرة تُروى بأدوات سردية مهمة متكاملة حققت عناصر الحكي المهم كافة وما يرمي إليه، لذلك رأيتني أندمج منذ طفولتي بهذا الفضاء الفسيح، وتتراكم في دواخلي شهوة الحكاية.

بت لا أؤمن بمقولة ترى أن الرواية ابنة المدينة، والشعر ابن البادية. في الريف والبادية، ثمة روايات عظيمة كتبت وثمة حكايات كبيرة ستكتب، وثمة شعر لا يزال يحتفظ بمكانته. كذلك المدينة ما زالت تقول حكاياتها الخاصة، وشعرها الخاص أيضاً.

لماذا ترفض اعتبار الرواية ابنة المدينة؟

لا أرفض اعتبار الرواية ابنة المدينة، بل أنا مقتنع بهذا الرأي النقدي، ولكنني أرفض الرأي الذي ينكر الروايات القادمة من الأطراف، وأقصد الأطراف التي هي بمنأى عن المركز ألا وهي المدينة. ففي الريف والبادية، أصل قوي للحكاية ومناخات متفردة في هذا الشأن.

إن دققنا في النهج السردي المحكي في الريف والبادية والقرى، نجد تقنيات مهمة ووعياً فطرياً بالحكاية وأصولها. في هذه المناخات الاجتماعية البكر، ومنها  البادية، تتسع المخيلة جنباً إلى جنب مع اتساع الفضاء الطبيعي، فيصبح الليل وهو يلقي بصمته وسحره على بدن البيداء منبراً لحكايات عادة ما يشوبها شيء من خيال يأخذ صفة تراكمية، فتؤسطر الشخصيات المروية، وتأخذ الحكاية أبعاداً جميلة، حينما تروى من أكثر من شخص. والرواي حينما يشرع بحكايته يستخدم تلك الكاميرا المعدة للحكاية في مقدم مخيلته، فيعيش المتلقي التفاصيل كافة بعناصرها التصويرية والتشويقية، وتأزم العقدة والذهاب نحو الحب، ثم النهاية التي تصاغ بوعي درامي طبيعي.

في البادية والريف والقرى، نشأ عدد من الروائيين، اتكأوا على هذا الإرث العظيم، إلى جانب اهتمامهم بالموروث الروائي العربي والعالمي.   

كيف ترى روايات غالب هلسا؟

ولد غالب هلسا في قرية ماعين في مادبا، التي لا تفصلها عن القرية حيث ولدت، سوى مسافة عشرين كيلو متراً، ونشأ فيها قبل أن يتركها مغادراً إلى عَمان، في ذات المناخ الثقافي الذي نشأت فيه. تعرفت إليه عبر ترجمته الشهيرة لكتاب غاستون باشلار «جماليات المكان» فأدهشتني مقدمته الشهيرة للكتاب، وروح إبداعية تجلت في الترجمة المحكمة والمهمة. ومنه، انطلقت إلى عالم هلسا الروائي حيث وجدت قفزة مهمة في عالم الرواية في زمن سادت فيه مدرسة روائية واحدة اتكأت على نهج نجيب محفوظ.

كان لغالب هلسا وعي نفسي وسياسي وفني في استنطاق شخوص روايته، وفي تصوير أماكنها وأزمنتها بجمالية مذهلة، تضاف إلى ذلك جرأة هلسا العالية والتي تجلت لي في محاولاته قلب مكون شخصياته الداخلي وإعلانها أمام القارئ من دون أن يكترث بأي شكل من أشكال المحظورات.

غالب هلسا روائي مهم استثمر تجربته السياسية وعكسها على شخوص رواياته، وصاغ رؤى دقيقة عبر مشروع  روائي أزعم بعد مطالعتي له، أنه تنبأ عبره مبكراً بحوادث العالم العربي الراهنة، وهذا لم يكن له أن يحدث لولا موهبته الأصيلة، وثقافته التي تغذت من مصادر غاية في الأهمية، ووعيه السياسي المهم والذي لم يكن يسعى عبره إلا إلى الحرية.

قرأت غالب هلسا على مراحل، وأقصد هنا تعدد القراءات، والأخيرة منها أعماله في بيته حيث ولد ونشأ على تلك التلة في قرية ماعين. يمكن لنا في روايات مهمة، مثل روايات هلسا، أن نكتشف أبعاداً جديدة من أبعاد الرواية حينما نتتبع أمكنة الروائي ومناخاته.

برأيك وأنت شاعر، مع طوفان الرواية  هل سيتعزز حضور الشعر؟

سيعود الحضور إلى الشعر، وأعتقد أن ثمة توجهاً شعرياً سنشهده ستنتجه المرحلة التي لا يزال العالم العربي يمر بها، فالشعر يملك أدوات صموده، ولا بد من أن يشهرها، مع أنني أرى أن ما يشاع من آراء حول تراجع الشعر لصالح الرواية ليس دقيقاً، فقراء الشعر كثيرون، تماماً كما قراء الرواية، لكن هي مسألة نسبية كرسها بعض سمات الشعر الحديث التي صنعت هوة بين القارئ وبين القصيدة، لسبب واحد هو أن الحداثة الشعرية لم تسبقها حداثات، بحيث تأتي تلك الحداثة في سياقها الطبيعي.

رقابة وآباء

• هل ثمة رقابة في بلادك تجعلك حذراً في التعبير بحرية عن رأيك؟

لا أعتقد أن في بلادي مشكلة من هذا النوع، ولم أتعرَّض لأي مسائلة حول ما أكتب، علماً أنني لا أكترث بأي شكل من أشكال الرقابة فقد نشأت على مقولة لوالدي، مفادها، إن خفت لا تقل، وإن قلت لا تخف. فما من أدب له أن يبقى كالآدمي الذي يسير بخطى سليمة، من دون القفز عن المحظورات.

• من هم أباؤك في الرواية؟

في مرحلة مبكرة من عمري كانت قراءتي عشوائية للنتاج الروائي، لكنني فيما بعد وضعت لي برنامجاً يمتد بعض مراحله إلى عام. كنت أقسم تلك الإعوام حسب القراءة. على سبيل المثال، مكثت لخمسة أعوام متتالية أقرأ الأدب الروسي، وأقل منها جعلتها للأدب الألماني، علماً أن النتاجين لا تكفيهما أعوام كثيرة. لذلك وجدتني معجباً بأكثر من روائي مثل دستويفسكي وغوغول وهوغو وغوته على الصعيد الكلاسيكي، وزوسكيند وماركيز ويوسا على الصعيد الحديث. أما عربياً، فقد وجدت في غالب هلسا تلك الأبوة الروائية التي أضاءت لي طريقي، إضافة إلى إعجابي بتيسير سبول والطيب صالح وإميل حبيبي.

• ماذا عن مشاريعك المستقبلية؟

أسعى إلى الرواية التي تسلتهم عوالم الإنسان النفسية في زمننا الإشكالي هذا، بالإضافة إلى مقاربة ظروفه الخارجية. أسعى إلى أن أنجز رواية تقفز عمَّا هو نمطي، وتذهب ليس إلى الجمالي فحسب إنما أيضاً إلى تقاطع هذا الجمالي مع ما يعانيه الإنسان في في هذا القرن.

لا يكون هذا السعي إلا بأن أكتب من الشارع، لا عبر نافذة تطل عليه.

back to top