كيف سينتهي الشرق الأوسط الذي نعرفه؟

نشر في 08-11-2015
آخر تحديث 08-11-2015 | 00:01
 ياسر عبد العزيز تغيرات فارقة قد تقع في المنطقة العربية، ودول كبيرة ستتفتت، هذا ما يتوقعه الكاتب، ملقياً الضوء على مصطلح «الحرب اللامتوازية» التي تهدف إلى توظيف «العدو» في تدمير نفسه؛ حيث يبقى المقاتلون المتمردون والإرهابيون مندسين بين المواطنين، ثم يخرجون ليضربوا القوات النظامية، ليعودوا إلى «حضن الجمهور» مجدداً، موازناً بين تلك الحرب والأخرى التقليدية من عدة أوجه.

قبل نحو أسبوعين، أعلن مدير الاستخبارات الفرنسية برنار باغوليه أن "الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة، وأن دولاً مثل العراق وسورية لن تستعيد أبداً حدودها السابقة".

كان باغوليه يتحدث في مؤتمر بشأن الاستخبارات، في جامعة جورج واشنطن الأميركية، بحضور عدد من رجال الأمن وكبار الاستراتيجيين، حيث لم يعارضه أحد، بل على العكس تماماً، أقر نظيره الأميركي، مدير الـ"سي آي إيه" جون بيرنان، ما ذهب إليه.

لقد أكد برينان بدوره، خلال هذا المؤتمر، أنه ينظر إلى الدمار في سورية وليبيا والعراق واليمن، فيزداد يقيناً أنه من الصعب جداً وجود حكومة مركزية في أي من هذه البلدان يمكنها أن تفرض سيطرتها أو تحمي الحدود التي رسمت في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

يبدو بالفعل أن تغيرات فارقة ستقع في المنطقة العربية، وأن دولاً وطنية وأمماً كبيرة ستتفتت، وقد يتسع هذا الخرق فيشمل دولاً أخرى تبدو متماسكة وبعيدة عن المخاطر حتى هذه اللحظة.

إن الدول التي تتعرض لخطر التفتت وفقدان السيادة الإقليمية كانت تحت أنظمة ديكتاتورية حكمتها بالقمع والفساد، لكن هذا الأمر لا يعد تبريراً مقنعاً لسقوطها أمام هذا التحدي؛ إذ ثمة دول أخرى قمعية مازالت بعيدة عن خطر التقسيم والانهيار، سواء داخل المنطقة أو خارجها. وباستثناء العراق، الذي سقط وأخذ طريقه إلى التفتت جراء الغزو الخارجي، فإن الدول الثلاث الأخرى تعرضت لحالة من حالات الاستهداف المنظم، أفضت بها إلى الحرب الأهلية، والتعرض للاختراق الأجنبي، وتهاوي السيادة الوطنية. لا يمكن توجيه الاتهام إلى "الثورات" والانتفاضات التي شهدتها تلك البلدان، ولا يمكن اعتبار أن "الثوار" كانوا جزءاً من مؤامرة قادت إلى الانقسام أو التفتت أو انهيار سلطة الدولة؛ إذ كانت هناك ذرائع وجيهة جداً للثورة على مثل هذه الأنظمة.

وفي الوقت نفسه لا يمكن أبداً إنكار الإشارات الواضحة على عملية استغلال منهجي لحالة الثورة، بشكل قادها أحياناً إلى صراعات طائفية وحروب أهلية، أو أخذها في طريق هدم الدولة بدلاً من إصلاح مؤسساتها القائمة.

ويثور السؤال الآن: كيف تم تفكيك هذه الدول؟ وكيف سيتم تفكيك دول أخرى في المنطقة؟

ثمة عشرات الإجابات التي ربما يعكس كل منها موقفاً سياسياً أو رؤية أيديولوجية، لكن التركيز على الوسيلة سيجعلنا نتفق على أن استهداف تلك الدول في معظمه تم عن طريق "الحرب اللامتوازية".

يختلف كثيرون في منشأ مصطلح "الحرب اللامتوازية" Asymmetric Warfare، لكن يبدو أن أول تعبير متماسك عنه ورد في بحث نشره "أندرو ماك" في دورية "السياسات العالمية"، عام 1975، تحت عنوان: "لماذا تخسر الأمم الكبيرة الحروب الصغيرة؟ سياسات الصراعات اللامتوازية".

فـالحرب اللامتوازية" تقوم على استنزاف الأمة/ الدولة الكبيرة، وتفتيت قدرتها على الفعل الصلب القوي، عبر استدراجها إلى منازلات محدودة ومتعددة، بغرض إرهاقها، وسلبها تركيزها، وإذلالها إذا أمكن.

واستناداً إلى ذلك، يؤكد المحلل الاستراتيجي الأميركي "وليام ليند" على مفهوم "اللامركزية" في ما يتعلق بـ"الحرب اللامتوازية"، فيصفها بأنها "صراع يتميز بعدم المركزية وعدم التماثل بين الأسس والعناصر المتحاربة".

ويرى باحثون أن مفهوم "الحرب اللامتوازية" (يسميها البعض حروب الجيل الرابع) أسطوري وليس له وجود في الواقع، في حين يدفع آخرون هذا بأن استخدامه في الواقع المحلي لبعض البلدان ليس سوى "محاولة يائسة من السلطة لتبرير القمع والاستبداد، عبر الإيحاء بأن الدولة تتعرض لمؤامرة".

إن هذه الدفوع بائسة، ومعظمها يتجاهل الحقائق الساطعة على الأرض، والتي أفضت إلى تحلل سلطة الدولة، وانهيار الجيش، وبروز ميليشيات مسلحة، ومعها دعوات للتقسيم في أكثر من بلد.

في محاضرة مهمة ألقاها البروفيسور الأميركي "ماكس مانوارينغ"، عام 2012، نصح الرجل القادة العسكريين الغربيين مباشرة بتبني مفهوم "الحرب اللامتوازية"، قائلاً بوضوح: إن اعتماد أساليب تلك الحرب على مدى طويل، وتنفيذها تدريجياً بدأب، سيقودان العدو إلى أن يستيقظ يوماً ما فيجد نفسه ميتاً".

وببساطة شديدة، فإن وسائل "الحرب اللامتوازية" هي الاعتماد على "العدو" لتدمير نفسه؛ إذ سيبقى المقاتلون المتمردون والإرهابيون مندسين بين صفوف المواطنين، وسيخرجون ليضربوا القوات النظامية، ثم يعودون إلى "حضن الجمهور"، ليختفوا قبل أن يخرجوا من جديد. سيتم استنزاف الدولة وجرها إلى مواجهات خاطفة، وسيتم تصوير أفراد القوات النظامية، وهم صرعى أو أسرى في أوضاع مهينة ومذلة، وسيترافق هذا مع إطلاق حملات إعلامية لترويع عائلات الجنود والمسؤولين، وستشيع وسائط التواصل الاجتماعي أجواء من السخرية الحادة والفاقعة من كل ما هو رسمي ووطني.

سيترافق هذا مع استهداف منهجي للمرافق الحيوية، وضغوط دولية لتشويه السمعة، وتعثر في الوفاء بالاستحقاقات المالية الداخلية والخارجية، وإشاعة لليأس.

وفي خضم كل هذه الخسائر، ستنجح قوى ميليشياوية متفرقة في السيطرة على جيوب صغيرة وإخراجها من تحت سلطة الدولة، وستزرع أعلامها عليها، بينما ستُغل المنظمات الدولية والإعلام يد الحكومة، وستطالبها حتى باستخدام "الرأفة والرقة" في التعامل مع الإرهاب.

تختلف "الحرب اللامتوازية" عن الحروب التقليدية في عدد من العناصر؛ منها ما يلي:

الجبهة: جبهة "الحرب اللامتوازية" واسعة ومتعددة على عكس الحروب التقليدية التي يتم تعيين الجبهة فيها بإحداثيات دقيقة.

التوقيت: الحرب التقليدية محدودة بفترة زمنية، إذ يصعب جداً تمديد زمن الحرب، لأن تكلفتها عالية، لكن "الحرب اللامتوازية" ليس لها توقيت معين؛ إذ يمكن أن تستمر لعقد كامل.

الغاية: غاية الحرب التقليدية هي دحر العدو وكسر إرادته وفرض الشروط عليه، لكن غاية الحرب "اللامتوازية" مختلفة، ويمكن أن تكون "إنهاك العدو" فقط، ويمكن أن تتسع لتصبح "إنهاء العدو".

الوسائل: وسائل الحرب التقليدية معروفة، ومعظمها من معدات الحرب وأسلحتها، أما "الحرب اللامتوازية" فيمكن أن تكون وسائلها البنية الأساسية، أو مواقع التواصل الاجتماعي، أو وسائل المواصلات، أو العدو نفسه. أما كيفية مواجهة تحديات الحرب اللامتوازية، فهذا موضوع مقال مقبل بإذن الله.

* كاتب مصري

back to top