الكاتب السوداني فيصل مصطفى: أبحث عن {سحر الأمكنة} وأحتقب الوطن في ترحالي
قبل سنوات هاجر الأديب السوداني المعروف فيصل مصطفى إلى الولايات المتحدة، للوصول إلى أفق جديد في الكتابة، وبحثاً عن سحر الأمكنة، وهو عنوان كتابه الذي يصدر قريباً ويضم سلسلة مقالات عن تجربة هجرته إلى أميركا. وأثناء زيارته أخيراً للقاهرة التي لا ينقطع عنها طويلاً، التقته «الجريدة» في حوار تحدث فيه عن جديده إبداعياً، وردود الفعل حول ابتكاره أسلوباً جديداً في كتابة النص السردي بطريقة السطور الرأسية. إلى نص الحوار.
ابتدعت شكلاً في كتابة السرد بشكل رأسي لا أفقي. ألا ترى أن هذا الشكل قد يحدث لبساً لدى المتلقي بين السرد وقصيدة النثر مثلاً؟
اللبس في حد ذاته مطلوب، أما تجاور هذا الشكل الكتابي المختلف وقصيدة النثر فهو أمر فرضه تمازج الأجناس الأدبية من خلال ما يُسمى بـ {الكتابة عبر النوعية} أو الهجنة التي هي آخذة في الضلوع من خلال الكتابات الجديدة للنصوص السردية بجنسيها الرواية والقصة القصيرة.هل كان لهجرتك إلى أميركا أثر واضح في تجربتك الإبداعية؟ما زال الوقت مبكراً لاجتراح شيء من هذا القبيل! فقط أخذني سحر الأمكنة في أميركا الذي كان فاتناً وطاغياً، لذلك ما زلت أتأمل في مواطن الجمال وطاقة الإنسان الخلاقة في صنع كل هذا الإنجاز الذي يكاد يتجاوز الخيال.هل أوحت لك رحلاتك وتنقلك بين كثير من الولايات الأميركية كتابة ما يمكن أن نطلق عليه أدب رحلة؟ فعلاً، شرعتُ في ذلك، كتبت عدة مقالات عن مواطن الجمال في مناحي أميركا، عنونتها بـ{سحر الأمكنة}، وربما أتابع لاحقاً سلسلة هذه المقالات وأصدرها في كتاب بعنوان {سحر الأمكنة في أميركا}.رغم تنائيك عن الوطن، هل ما زلت متابعاً للمشهد الثقافي في السودان، وكيف تراه الآن؟منذ بدأت الاغتراب كنت أحتقب الوطن في معيتي وأظل أتابعه في حلي وترحالي. أما عن المشهد الثقافي الآن فبما أن الإعلام السوداني منذ الأزل يتسم بالصوت الخافت وصحفه لا تكاد تغادر حاضرة البلاد، وفضائياته يشاهدها السودانيون فحسب، وأزمة النشر ما زالت تضرب بأطنابها على أنفاس المبدعين، فإن المشهد الأدبي في السودان آخذ في التراجع، مقارنة بعقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. لكن أخيراً عقب انطلاق جائزة {الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي} التي بادر بتأسيسها لفيف من مبدعي الستينيات والسبعينيات أبرزهم إبراهيم إسحق، ومجذوب عيدروس.ما الذي أضافته هذه الجائزة للثقافة والأدب السوداني؟حدثت بفضل هذه الجائزة التفاتة صوب الخرطوم بصورة واضحة، لا سيما أن الجائزة درجت على استضافة مشاهير الأدباء في الوطن العربي، مثلاً في الدورة الأخيرة كان من ضيوفها الروائيان، الجزائري واسيني الأعرج والفلسطيني إبراهيم نصرالله، والشاعر المصري حسن طلب وغيرهم.شاركت بورقة حول تجربتك الإبداعية في أيام {جائرة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي}. كانت الورقة التي قدمتها حول تجربتي الإبداعية فرصة طيبة لأقدم نفسي لجمهور غبت عنه طويلاً منذ نهاية السبعينيات، وأطرح له مفاصل الجديد والمستحدث من تجربتي الإبداعية وحالات الرفض والقبول من النقاد لهذه التجربة التي وصفها البعض بالزركشة اللفظية، وثمة من أشاد بها ونسبها إلى ما بعد الحداثة أمثال محجوب كبلو وعبدالماجد عبدالرحمن الذي وقف حول التجربة برمتها طويلاً. ومن بين ما أورده عن النص السردي {تجليات السهو} مثلاً قوله إن {هذا النص من نماذج النصوص المتجاوزة ذات الجدة والاختراقات التي ندعو لها ونعول عليها كثيراً في تطوير التعبير الأدبي عندنا وتتجلى بصورة واضحة في هذا النمط الكتابي ملامح استراتيجيات ما بعد الحداثة، من ذلك الميتا سردMeta fiction حيث ينعكس النص على نفسه وينشأ حوار داخلي معها، والنص قصيدة نثر جميلة وهو أيضاً سرد فلاشي ولا حدود كبيرة بينهما، إذ إن كتابة ما بعد الحداثة لا تعترف أصلاً بالجغرافية الأدبية الإجناسية القديمة}.ماذا قال عن نصك السردي {ومضة}؟ثمة جمال وتجاوز وعذوبة وخطوة فنية أكثر تقدماً عن طريق الاشتغال على عناصر الميتا سرد والميتا شعر والميتا لغة و(لغة اللغة وسرد السرد وشعر الشعر)، والنص كله قائم على التوظيف الخلاق، والومض نفسه شكل كتابي جديد أو متجدد، يسمى Snapshot Writing، والومض له عوالمه وكشوفاته التي تتجاوز معالم ومعارف الكتابة التقليدية واستراتيجيتها الناضبة، ثمة كتابات ومضية قليلة بدأت تنتظم المنطقة الآن، مثلاً قبل أشهر أصدرت {لمياء همت} كتاباً عنونته بـ {ومض}، وهو في ذات الاتجاه الومضي للكتابة الحداثية وما بعد الحداثة، ويختتم تشريحه بقوله {واصل ومضاتك يا فيصل.بما إنك لم تنقطع عن كتابة المقالات الأدبية، فماذا أنجزت في هذا الصدد؟ثمة مشروع تعريفي بأبناء جيلي والجيل التالي من كُتَّاب السرد والنقد، كان يشغل بالي، وفي لحظة ما ولجت عتبته عبر الناقد الشاب عثمان تراث الذي أصدر كتاباً كاملاً عن روايتي الأولى {الخفاء ورائعة النهار}، ووصف روايتي الثانية {حكيم وعطا وروضة يعبرون النيل}، التي كُتبت بالشكل الكتابي المختلف بالفتاة الساحرة الفاتنة التي تمر على مجموعة من الشباب فتربكهم، ثم توالت الأسماء (عيسى الحلو، إبراهيم إسحق، محمد المهدي بشرى، مجذوب عيدروس ومصطفى الصاوي)، وسلسلة طويلة من المبدعين في مجالي السرد والنقد، وقد أصدرت الجزء الأول منها وربما، أتابع الأجزاء حتى أغطي معظم أسماء المبدعين من الجيلين.لا ينفصل الأديب عن عالمه المحيط حتى لو كان مهاجراً. كيف تقيَم الأوضاع السياسية في الشرق الأوسط بعد مرور نحو خمسة أعوام على الثورات العربية؟أنا من الذين يحتقبون الوطن ومعضلات العالم العربي في حلهم وترحالهم والسؤال في مجمله، بحر عميق الأغوار، ثمة أمر إيجابي واحد حدث، هو كسر حاجز الخوف الذي كان ينتصب عالياً بين الشعوب العربية والأنظمة الشمولية... ولكني أتساءل {وماذا بعد؟}، وهل ما يحدث الآن يمكن أن نطلق عليه فوضى خلاقة، أم أن ثمة جهات خارجية من خلف الستار تعمل لإعادة تقسيم الوطن العربي بحسب رؤيتها لإقامة خارطة الشرق الأوسط الجديد... كل هذا وارد في ظل الصراع الغامض بين الجماعات الإسلامية ومن يدعون إلى إقامة الدولة المدنيَة.هل من جديد في مجال الرواية؟ثمة رواية صارت جاهزة الآن للنشر بعدما نُقحت أكثر من مرة وآمل أن أشارك بها في جائزة البوكر العربية وهي {ظلال وريفة}.تقسيم السودان إلى دولتين عقب انفصال الجنوب عن الشمال، هل انعكس على إبداعات الكتاب السودانيين؟بالتأكيد، هذا خنجر انغرس في ظهورنا شماليين وجنوبيين معاً، بمؤامرة دُبرت بليل بين النظام المتأسلم والغرب وأحدثت جرحاً غائراً، ما زال نازفاً، وثمة كثير من الكتاب الذين طرحوا هذه القضية في إبداعاتهم مثل الأديبة والصحافية التي كانت تعمل في جريدة {أجراس الحرية}، إستيلا قاتيانو، من دولة جنوب السودان، فقد ولدت في الشمال ودرست في جامعة الخرطوم وتزوجت شمالياً وتكتب أعمالها باللغة العربية، وهناك حتماً من المبدعين الآخرين شغلتهم هذه القضية وناقشوها في أعمالهم، وما زال الأمل يحدونا في أن يستعيد السودان وحدته مُجدداً.