بداية ما كل هذه المرارة التي عانت منها بطلة «برتقال مر»؟
المرارة واقع حياتي ويومي، تلك البطلة ما كانت لتأسرني في عالمها وتدفعني للكتابة عنها وتخصيص سنوات لفهمها وتقمّصها لولا أنني تفاعلت مع المرارة التي اختبرتها في الحياة. بالتالي، أنا متعاطفة مع بطلتي ومنحازة إليها، رغم أني لم أصورها كملاك وأظهرت نقاط ضعفها وكبواتها ونزواتها، وحتى أذيتها للآخرين وحقدها وحسدها، إنها وحدة في دورة الحياة، تعرف ابتسامات ومرارات، لكن تطغى الأخيرة، لأن الأمر قدري وليس بيد الكاتب أو غيره.تؤدي الحكاية والأمثال دوراً مهماً لدى بطلة الرواية التي تسحبها الجدة من عالمها المؤلم إلى عالم الحكاية السحري، فكيف نسجت خيوط هذه الحكايات؟شكَّل المخزون الشفوي لقريتي اللبنانية، وهي إحدى قرى الشوف في جبل لبنان، جزءاً كبيراً من وعيي ووجداني. في طفولتي، رشفت من نبع حكايات جدتي ووالدها، حكواتي القرية، كذلك حرصت أمي على حكاية قبل النوم، وكانت تقرأ لنا ما حفظته من جدها وأمها من الأدب الشعبي الشامي و{ألف ليلة وليلة} و{كليلة ودمنة}، أرى أنّ تلك الحكايات والأمثال جزء من حياتنا اليومية، ليست كماليات بل أساسيات، ولا يمكن أن أحكي حكاية مجموعة في بيئة محددة بعيداً عن موروثها الشفوي الشعبي، وقد جمعت كل ما تيسر من حكايات شعبية حول العالم، وكنت كلما تعمّقت في دراستها، كلما شغفت بها، فهي كنوز إنسانية وهي أيضاً كالتاريخ تعيد نفسها في ديكور مختلف ومسرح مختلف وتسميات مختلفة. المهم أننا نجد لها إسقاطات في حكايتنا وانعكاسات في مرايانا.تعمدت الكتابة باللهجة القروية اللبنانية... ألا تخشين من وجود قارئ لا يحيط بها؟لم أتعمد الأمر، بدأت أكتب وحين أتى دور الشخصيات لتتكلم وجدتها تتكلم بلهجتها، لم يكن منطقياً لي أو محبذاً أن أحول كلامها إلى اللغة الفصحى، كيف يمكن لعجوز قروية أن تقول: «هكذا إذا؟... يا إلهي!» كنت متشبعة بروح الشخصيات إلى درجة استعادة حواراتها ولكناتها وحتى إيقاع جملها، والرواية كالدراما تعاني مشكلة الحوار هذه، فالمؤلفون غالباً يفكرون في القارئ الذي يعجبهم ويتوقون إلى مخاطبته، فيكتبون ما يفهمه، أنا لا أفعل، أنا أكتب ما يوافق منطق قصتي وروايتي وحتى فيلمي، لا يمكن للجميع أن يتحدثوا لغة واحدة كما ألاحظ في مجمل ما أقرأ، اللغة تكون لغة الكاتب الشخصية، ما يعطي حوارات ضعيفة، لأنه يجعل القروية تتحدث بقاموس ولغة المتمدن نفسهما، والمهندس مثل الباشا والميكانيكي مثل مضيفة الفندق الفاخر! هذا يدمر العمل الإبداعي، ولغة الشخصيات جزء من اللعبة الروائية، وجزء صعب، كيف تجعلها تنطق كما تتصرف وتمشي وتلبس وتفكر وتفعل وتصارع، هذه من جماليات الفن الروائي، وقد ساعدتني اللغة في إظهار خصوصية البيئة التي أتحرك فيها أنا وشخصياتي، والقارئ إن صدقنا سينضم معنا في المسرح ذاته ولن يشعر بالنفور، وأيضاً كما أشارت الناقدة القديرة يمنى العيد ساعدني في أرشفة لغوية لهذا الجزء الصغير من العالم، حيث أقلية مهددة باضمحلال هويتها وسط فيضانات العولمة وغيرها.تجلت تقنيات السيناريو والمشهدية بصورة كبيرة في نصك الروائي الجديد، فلماذا لجأت إلى ذلك الأسلوب؟ألهمتني تقنيات السيناريو الشكل الروائي الذي أريده، بناء الحبكة وتقطيع المشاهد وثنائية اليأس والأمل الدرامية، كذلك أن تكون المشاهد والفصول غير متساوية زمناً وشكلاً، كي يكون الإيقاع غير رتيب.كيف تصفين علاقتك بشخصياتك وما مدى التماس معها؟اقتبس معظم شخصياتي من أشخاص أعرفهم، وأعرفهم جيداً. حتى من مروا بحياتي مروراً سريعاً، وتركوا أثرا أعتبر نفسي على صلة بهم أكثر من أشخاص آخرين عرفتهم لوقت أطول من دون أن أفتقدهم أو أذكرهم، ولا أقول إني لا أتحكم بشخصياتي على طول الخط، فقط في البداية، حين أرسمها وأضع ملامحها الجسدية والنفسية والعاطفية، بعد ذلك أرسم الأمكنة والأزمنة التي تتحرك فيها، وأجد أنها تقودني بمنطقها وبعوامل الزمن والمكان وغيرها فلا تعود القيادة لي، وقد تفاعلت مع كل شخصية مهما كانت فرعية، وأحببت مثلاُ، تيم، كما أحبته مي. حتى إنني حين وصلت إلى مشهد اللقاء وتناول الطعام الذي مهّدت له خلال ثلاثة أرباع الرواية، لم أستطع أن أتخيله يجلس ويأكل ويمضغ أو حتى أضع الحوار على لسانه، شعرت أنني مثل مي أقدسه، وله هالة نورانية عندي ترفعه عن أفعال بشرية كهذه، لذا أسقطت هذا المشهد، وابتكرت طريقة للتحايل على إسقاطه.كيف تتجلى صورة الرجل في إبداع بسمة الخطيب؟ليست لديَّ صورة مطلقة للرجال، أو النساء، ثمة طبعاً أغلبية وأقلية، قواعد ومن يشذ عنها واستثناءات، البطلة تعلن أنها تكره الرجال، ولكن هذا ليس كل الحقيقة، فليست ثمة مشاعر مطلقة، لأن الرجال ليسوا واحداً، فحبّها الكبير والمحور الذي تدور حوله حياتها هو رجل، تيم، وهي تكره أمها، وترفض أن تزورها على فراش الموت! ليس كل ما تقوله مي حقيقياً، وهي لا تكذب ولكنها تبالغ أحياناً أو تتوه وتخطئ الحكم على الأشياء وتوصيف مشاعرها وتنفيس غضبها... عبر انفعالات تخطئ مسارها.داخل كل مبدع يسكن ناقد، فإلى أي مدى تنتقدين نفسك؟إلى درجة مرضِيّة، لا أتوقف عن مراجعة ما أكتبه، وأعيد الكتابة كثيراً، وحين يصدر الكتاب فقط أتوقّف عن القراءة، كي لا أندم مجدداً ساعة لا ينفع الندم، أدفع بمسوداتي لمن أثق في أنّهم سيقرأون حتى لو كانوا من توجهات أدبية وفكرية مختلفة، كلاسيكيون مثلاً.ما الذي ينقصك كروائية وكاتبة سيناريو؟القليل من الوقت والكثير من الحرية.
توابل - ثقافات
بسمة الخطيب: مخزون القرى اللبنانية مليء بالحكايات
03-08-2015