في معظم كتاباته وصولا إلى ديوانه الجديد الصادر حديثاً «عارٍ جسد الصحراء»، يرفع الدكتور جورج زكي الحاج لواء نصرة قضية الإنسان، منطلقاً من أرض لبنان موئل الحضارات والبوتقة الخصبة أزهرت وما زالت تزهر ثقافة شاملة  تنصهر فيها الثقافات المختلفة من الشرق ومن الغرب.

Ad

شاعر وأديب وباحث واستاذ جامعي، يتوزع شعر جورج زكي الحاج بين الغزل والوجدانيات والوطنيّات،  غايته ترك رسالة لجيل  الشباب تقوم على الإخلاص والرجولة والكرم ومشاركة الناس أفراحهم واحزانهم، وتقديس الكلمة في مواجهة موجة الإباحية السائدة. صائغ ماهر للقصيدة، نادراً ما يتركها كما تأتيه بنت ساعتها، بل يهذبها ويجذّبها لتكون جديرة بحمل قدسية العبارة الشعرية والصورة الشعرية، من هنا يعتبر ديوانه الجديد نقلة نوعية في صناعة القصيدة، فيه من الشعر العمودي الموزون المقفى والشعر الموزون على طريقة المقالة الشعرية والشعر على الوزن، لكنه متفلت من كل قيد، فهو على غرار  معظم دواوين الشاعر لا ينتمي إلى زمان معين ومكان معين بل  يعبق بقضايا فكرية وثقافية تصلح لكل زمان ومكان.  حول جديده وجملة قضايا فكرية كان الحوار التالي مع د. جورج زكي الحاج.

عار جسد الصحراء يمزج بين الإبداع العقلي والفكري في الشرق والتركيبة الفسيفسائية في لبنان، كيف تفاعل هذان النمطان في أقلام الشعراء والأدباء؟

  لا يمكن أن نُعطي الإبداع هويةً معيّنة، أو أن نحصره في مكانٍ معين أو زمنٍ معين، أو أن نؤطّره في بيئةٍ اجتماعية أو قومية أو دينية... الإبداع سائلٌ يتمدد في الكون، ولا يكون إبداعٌ إلاّ في الفن، والفنان إبن هذا العالم كما هو ابن بيئته، لذلك كثيراً ما نقرأ لشاعرٍ غريبٍ عن بيئتنا ومجتمعنا وكأنه يعيش معنا ومع الناس أجمعين... فأحياناً أجد شاعراً من قارةٍ أخرى أقرب إليَّ من آخر يسكن في الحي الذي أقطن فيه، يُقيم الأمسيات ويملأ البلد صراخاً وإعلاناً، يموت ما يقوله بموته أو بسكوته...فالمتنبي أو بودلير هما أقرب إليّ من هذا... هذا هو شعر الفعل، أو شعر الحقائق الإنسانية الخالدة، التي، نموت ولا تموت. وفي ديوان «عارٍ جسد الصحراء» تركيبةٌ فسيفسائية، كما ذكرتِ، ولكن ليست فسيفسائية لبنانية فقط، فأنا لبناني بالدرجة الأولى، وأنتمي إلى هذا العالم العربي، الذي أُتقن لغته الجميلة، الغنيّة بالمفردات والتراكيب، وببلاغتها الفريدة، وبموسيقى شعرها التي لا تشبهها أخرى... وربما لأنني أكتب الشعر بالعربية الفصحى وبالعاميّة اللبنانية قد ساعدني على هذه النمطية، وعلى هذه الفسيفساء...  ولا أقول إنني البادئ أو الوحيد بين الشعراء الذين تخطوا دائرتهم الإبداعية، لكنني واحدٌ منهم ومتأثرٌ بهم.

إلام ترمز الصحراء في الديوان؟

  «عارٍ جسدُ الصحراء» هو عنوان قصيدة اخترته عنواناً للديوان، وترمز الصحراء في هذه القصيدة إلى راقصةٍ عربية وهي تؤدي وصلتها على المسرح، كذلك في قصيدة «عنقودُ الليلِ بلا عِنَبٍ»، غير أن صحراء الديوان لا ترمز إلى جسد الراقصة فقط، وإنما إلى الأرض التي تنتمي إليها تلك الراقصة، عنيت بها الأرض العربية، وبالتالي الحياة العربية والمجتمع العربي اليوم، الذي يُشبه صحراء قاحلة لا شجر فيها ولا عشب، وهذا، بدوره يرمز إلى محنة العقل العربي، وإلى قحط الإبداع في هذا الزمن التاعس... فالعربي ما زال يعيش عُري الصحراء. ورغم إيماني يأنّ الصحراء عالمٌ خاص، له رهبته وجماله، ورغم محبتي عالم الصحراء وجمالاتها الطبيعية، إلاّ أنني لم أذكر الصحراء يوماً في شعري إلاّ بالمنظور الذي ورد في الديوان.

 ما علاقة الصحراء بالإنسان في ديوانك؟

 الصحراء هي الإنسان بالذات، هي العقل، وأقصد العقل العربي، الإنسان العربي الذي يعيش اليوم في مجاهل التاريخ البشري... ألا ترين معي في أي مصائب نحن اليوم؟ وهل يستطيع إنسان يعيش في القرن الواحد والعشرين أن يتصوّر ما يحدث اليوم في العالم العربي؟ هذا هو العقل العاري، هذا هو الصحراء العارية، وأنا لا أقصد البلاد الصحراوية طبيعيّا أو جيولوجيّاً، وإنما الإنسان المتصحّر، حتى لو كان يعيش في أجمل البلدان طبيعةً.

 ما هو الشعر بالنسبة إليك؟

 الشعر أبعدُ بكثيرٍ من كلامٍ موزونٍ ومُقفّى، وأبعدُ من سطورٍ مموسقة، وأبعدُ من اللعب على الكلام، ودخول لعبة الكلمات المتقاطعة، أو الولوج إلى عالم الطلاسم... الشعر وجعٌ داخلي، لكنه وجعٌ لذيذ، مُفرح، ساحر، ينقلني إلى عالمٍ يبتدعه لي، عالم مبدع... الشعر فعلُ تغيير، وهو وسيط الإيمان، هو صلاةٌ صافية نقيّة تنبع من عمق الوجدان، ولنقل هو اختصار الذات الانسانية الصغرى واندماجها بالذات الإلهية الكبرى... فالشعر، في نظري، صلاة، لكنه صلاة العمالقة، والخيط الرفيع الذي يربط الإنسان بأسرار هذا الكون، والغدائر الضوئية التي تهبط من علُ لتحُلَّ حلول الروح القدس على المختارين من البشر، وما أقلّهم، فأنا قليلاً ما أقرأ شعراً في هذا الزمن العاري... فما أكثر الضجيج وما أقلّ الحجيج، أقول في قصيدتي بجبران خليل جبران المنشورة في ديواني «الصوت المصلوب» الصادر في العام 1993:

  «أنْ تُكملَ الكونَ، أو.. أو أنْ تُغيّرَه         فهوذا الشعرُ، لا الشكوى إلى التُّرَبِ.»

  فالشعر إنْ لم يكن فعل تغيير، وعنصراً مساعداً وفعّالاً في خلق مجتمعٍ جديد، وحياةٍ جديدة، تكون جديرةً بإنسان المستقبل ليس شعراً.

 

شعرك لا يتوقف عند حالة نفسية معينة وزمن معين بل يتخطى الفصول والأرواح ليغدو كوني التعبير، فما الذي يجعل شعرك يحلق في فضاءات اللامتناهي؟ هل هي ثورتك التي هي مرآة روحك أم الصناعة اللغوية التي تتقنها؟

 مهما بلغ الشطط في تعريف الشعر، ومهما كثُرت النظريات والمدارس والمذاهب الشعرية... فإنّ حقيقةً واحدةً تبقى ثابتة، خصوصاً في ما يتعلق بشعر اللغة العربية، هي أنّ الشعر روحٌ وجسد، ولا يمكن أن يكون واحدٌ على حساب الآخر، وإلاّ كان الخلل. وقليلون جدّاً هم الذين وازنوا بين الاثنين، أو كان الشعر عندهم إبداعاً عن طريق الصناعة اللغوية والشعرية فقط، كبول فاليري في فرنسا وسعيد عقل في لبنان، اللذين آمنا بالصتاعة حقيقة الشعر، فسعيد عقل يقول في ص 59 من كتابه «كأسٌ لخمر»: أن تُزامل الله في برء الجمال عن طريق الكدح الأبجدي، ذلك هو الشعر.» وأنا ، بدوري، انطلاقاً من مفهومي للشعر الذي قلته لكٍ قبل قليل، أوافقكِ الرأي بأن شعري ليس وليد حالةٍ نفسيةٍ معيّنة، وإذا كان كذلك فهو لا يتوقف عندها، بل يتخطاها ليُحاكي الإنسان أينما كان وفي كلّ زمان.

  نعم، شعري هو انعكاس روحي، ومرآة ذاتي، لكنني أعكس تلك الروح بصفاءٍ ونقاوة، تُيسّرهما لي الصناعة اللغوية، وإتقاني العربية وأسرارها، والتعمق في بلاغتها. فنادراً ما أقبل القصيدة كما جاءتني في أثناء الحالة الشعرية، وهناك قصائد تُكتب عدّة مرّات، حتى أنها تُنشر غير مرة، وفي كل مرة تكون مختلفةً عن الأخرى، وهذا جزءٌ كبيرٌ من الوجع الذي حدّثتكِ عنه، عندما قلت إن الشعر وجع... لكنه وجعٌ لذيذ. ولا شكّ في أنّ العربية بصيغها الجميلة وبتراكيبها تُغذّي روح الشعر، وكما الشعر هكذا هي الفنون جميعها.

لك أكثر من 20 كتاباً بالفصحى  تتراوح بين الدراسات النقدية وأخرى في الأدب والشعر. هل يمكن اعتبارها نوعاً من أنطولوجيا للحركة الثقافية العربية؟

  تتنوّع موضوعات مؤلفاتي بين القصة القصيرة (مجموعتان)، والنقد السياسي (كتابان)، والنقد الفكري الديني (كتاب)، والشعر (ثمانية دواوين: أربعة بالفصحى وأربعة بالعامية). أما المؤلفات الأخرى فهي في الفكر النقدي والفكر الأدبي، وهي تُعاصر الحركة الأدبية اللبنانية منذ مطلع القرن العشرين حتى اليوم. لكنني لا أستطيع القول إنها أنطولوجيا للحركة الثقافية العربية وإنْ كنت قد لامستها في بعض الأحيان، خصوصاً في كلامي على النقد الإبداعي في مؤلفي الجديد: (النقد الأدبي من الأكاديمية إلى الإبداعية)، وبفخرٍ أقول إن كتابي «الفرح في شعر سعيد عقل» الصادر بطبعته الأولى في العام 1980، وبطبعته الثالثة في العام 2012 كان فتحاً جديداً في المكتبة العربية، وفي نقد الشعر العربي الذي عاش طويلاً على «قفا نبكِ....» وعلى الحزن والشكوى والصبابة، واللوعة، وعلى ألم الفراق وبكاء الأحبة على الأطلال، كذلك كان كتاب «نقدات على بيدر الكلمة»، وكتاب «ثنائية الرؤيا»، وكتاب «الحلم الخلاّق في شعر عبدالله الأخطل»، فهذه الكتب اختطت منهجاً جديداً في النقد الأدبي، هو إلى النقد الإبداعي أقرب... هكذا كانت آراء النقاد والكتّاب الذين تناولوا كتبي ومؤلفاتي في نقدهم ودراساتهم.

 قلت في مداخلة لك إن ثمة لغات عربية عدة  وليس لهجات ماذا تعني بذلك؟

إذا عدنا إلى أيّام الدعوة الإسلامية نقرأ أن القرآن الكريم دُوِّن «بلغة قريش»، ولا نقرأ «لهجة قريش»، حيث كان لكل قبيلةٍ من القبائل العربية يومها لغتُها الخاصة، فكانوا يقولون: لغة ربيعة ولغة تغلب ولغة مُضر ولُغة عبس ولغة ذبيان وإلى ما هنالك، مع العلم أنّ الفروقات بين لغة قبيلةٍ وأخرى لم يكن كبيراً وشاسعاً كما هو عليه اليوم بين لغات الدول العربية، فالفروقات كثيرةٌ وكبيرةٌ بين مفردات العامية اللبنانية مثلاً والعامية الجزائرية، أو بين العامية السورية والعامية الموريتانية، أو المغربية أو الصومالية أو الأريتيرية وغيرها، وعندما كان يجمعنا مؤتمر ما مع غيرنا من شعراء الدول العربية كنا نجد صعوبة كبيرة في الفهم، لذلك كنا نتكلم الفرنسية أو العربية الفصحى، وأنا درست العامية اللبنانية والعامية المصرية والعامية العراقية والعامية النبطية وعامية البدو في بعض المناطق السورية والأردنية، ودوّنت فروقات تجعل من كل عاميةٍ لغة قائمةً برأسها، وهذا لا يُضير العربية الفصحى بشيء، فأنا أقول: هناك لغة عربية جامعة هي الفصحى، لغة القرآن الكريم، وهناك لغة لكل بلد من البلدان العربية، أما اللهجة فهي تكون في البلد الواحد، فنقول : لهجة الصعيد ولهجة المدينة، لهجة الشمال ولهجة الجنوب، لهجة الجبل ولهجة الساحل، مع كل ما يُفرّق بين هذه اللهجات من قصرٍ وطول، ومن مدٍ وجزر، ومن مخارج حروف وما إلى ذلك. فأنا، رغم اهتمامي بالعاميات العربية، ورغم زياراتي المتكررة للجزائر وللمغرب، ومشاركاتي العديدة في مؤتمرات الشعر العامي هناك، ورغم محاولاتي الحثيثة لفهم عاميات تلك البلاد، ما زلت أجد نفسي مُقصّراً ولم أستطع، حتى اليوم، أن أدرس أوزان أشعارها. وإذا كنا نفهم بعض المصرية اليوم، فهذه جهود عقود كثيرة من السينما والمسرح والأغنية والتلفزيون... لكنني أقول إنّ كثيراً من مفردات العامية المصرية لا نفهمها حتى اليوم، وكذلك تراكيبها وصيغها التي تختلف عن غيرها من العاميات، فنحن نُقلّد اللهجة المصرية وليس اللغة المصرية، وهذا ما قاله لي الأستاذ صفوت كمال، أحد شيوخ الثقافة الشعبية في مصر، وما كرّره لي الدكتور محمد محمود الجوهري، أحد كبار دارسي العامية المصرية والثقافة الشعبية هناك. وقد قلت في أحد كتبي إن أقرب العامية إلى الفصحى هي العامية اللبنانية بمفرداتها وبتراكيبها، فقد تبين لي أن ما يفوق 85 بالمئة من مفردات العامية اللبنانية هي من العربية الفصحى المستعملة وليس البائدة، وأن أكثر من 90 بالمئة من تراكيبها متشابهة. وهذا ما كنت ألمسه وأنا أقرأ من شعري العامي في مصر أو في الجزائر أو في المغرب، حيث كان تفاعل الجمهور يدلّ على فهم عاميتنا... في حين لم يكن هذا ليحصل عندما نسمع شعراً عاميّاً من شاعرٍ آخر، حيث لا يتفاعل معه سوى أبناء بلده أو أبناء بعض البلاد المجاورة، التي تتقارب لغاتها، وقد توسعت في هذا في كتابي «إبداع العامية».

 كيف يمكن ان تكون اللهجة العامية مشتركة بين الشعوب العربية؟

  هذا ليس مطلوباً بحرفيته، وإنْ كنت أتمنى وأسعى، ضمن إمكانيتي، إلى تعميم العامية اللبنانية على بلادٍ عربية،لأنها، كما قلت، أقرب العاميات إلى العربية الفصحى، ولو أنّ اللبنانيين جهدوا كالمصريين في نشر لغتهم في العالم العربي لكانوا حققوا ما نتمناه، فالسينما المصرية والمسرح المصري والغناء المصري، أمورٌ ساهمت في نشر المصرية، وهذا يعود إلى التقدّم المصري في هذه الميادين. وإلى تزعّم القاهرة الحركة الفنية في العالم العربي حقبةً زمنية معيّنة. ففي الوقت الذي كان المصريون ينشرون عاميتهم، كان اللبنانيون يقدمون مسرحياتهم وأعمالهم الفنيّة بالعربية الفصحى، طلباً للانتشار... وحدهما الأخوان الرحباني خرقا هذا الجدار منذ مطلع الستينات من القرن الماضي، وأظهروا جمالية العامية اللبنانية في المسرح والأوبريت، ولهما يعود الفضل الأكبر في انتشارها خارج لبنان، واليوم أرى أنها شقّت طريقها، بفضل المؤتمرات التي نشارك فيها في البلاد العربية، وبفضل الكتب والدراسات التي تناولتها، وبفضل الشعراء المجيدين فيها، وكثرة الدواوين، بغضّ النظر عن تقويمها... وفي رأيي هذه هي الطريقة السليمة لانتشار العامية... الطريق طويلة وصعبة، لكنّ المهمة جديرة بالاهتمام. وهذا لا يُضير العربية الفصحى بشيء، فهي لغة عريقة وجميلة ومميزة، بغضّ النظر عن قدسيتها، وأنا متحمّسٌ لها ومتمسّكٌ بها... لكنّ التاريخ يتسع للجميع، فالعامية ليست بنت اليوم، هي متزامنة مع الفصحى، وقد أكّد ذلك الباحثون والمؤرخون، وقد أشبعتها درساً في كتابي {الإبداعية بين الفصحى والعامية}.

ثقافة شاملة

•  أنت شاعر وأديب ورسام ومفكر وأستاذ جامعي، كيف تتفاعل كل هذه العناصر في فكرك وفي قلمك وريشتك؟

  الشعر والرسم وُلدا معي، وأنا سليل بيتٍ شاعري، فوالدي، رحمه الله، كان شاعراً وأديباً ومُفكّراً، وأثاره تدلُّ عليه، كذلك جدّي لوالدي كان شاعراً ارتجاليّاً بالعاميّة ومعروفاً في منطقته والمناطق الأخرى... كما أنني لم أتعلم الرسم في أيّ معهد أو أكاديمية أم على يدي أي أستاذ، وإنما طوّرت موهبتي وهذّبتها من خلال أسفاري وزياراتي للمتاحف العالمية، وللأكاديميات والكاتدرائيات في أوروبا وغيرها... وكنت أدرس اللوحة، فنيّاً، بالنظر والتحليل، لذلك كثيراً ما تتطابق القصيدة عندي مع اللوحة، لأنهما وليدتا حالةٍ شعورية واحدة، وأنا أعيش المخاض عينه كلما أتتني القصيدة أو اللوحة على السواء. أما كوني أديباً أو مفكّراً، فهذا يعود ، بالإضافة إلى الموهبة وإلى رغباتي وميولي، إلى شغفي الكبير بالمطالعة والقراءات المتنوّعة، فمكتبتي تضم حوالى ستة آلاف مجلّد في مختلف الاختصاصات، من شعر وأدب وفلسفة ولاهوت وميتولوجيا وعلم اجتماع وغير ذلك من العلوم الإنسانية... أما التعليم الجامعي فقد أفادني في المنهجية النقدية وفي الموضوعية المطلوبة في كل عمل نقدي أو أدبي، كما ساعدني على تخطي النقد الأكاديمي إلى سلوك طريق النقد الإبداعي، بحيث يصبح النص النقدي نصّاً إبداعيّاً قائماً برأسه... وهذا كله يؤثّر في القلم والريشة على السواء، فيكون للمخزون الثقافي انعكاسٌ ظاهرٌ في كلّ عملٍ فنّيٍّ يصدر عني... وفي كلّ حال لا أسمح لنفسي أن أقوّم نتاجي أو أن أحكم عليه، فالقارئ والتاريخ هما الوحيدان اللذان يستطيعان الحكم على كل ما قلته الآن في هذا الحديث، وعلى كل ما قيل منّي ومن غيري في هذه الحقبة الزمنية من عمر الثقافة عندنا. 

 • ما أثر الثورات العربية على الحراك الفكري والنتاج الأدبي والثقافي؟

   علّمنا التاريخ أنّ الثورات في العالم كانت بنت الفكر، كما كانت نتائجها مُثمرةً على صعيد الأدب والشعر والفنون جميعاً، أما إذا كانت غير ذلك فهي لا تولّد إلا الخراب والدمار والقتل والتهجير، خصوصاً إذا كانت بنت الجهل أو التعصّب، القوتين اللتين تتحكمان بالعالم العربي اليوم، وبهذا لا تكون ثمارها الأدبية إلا بعد عقودٍ وربما قرونٍ من الزمن، فأدب الحروب والثورات لا يُكتب في أثنائها، وإنما بعد ذلك بسنوات... ولا شكّ في أنّ ما يُسمّى بـ {الثورات العربية} سينعكس سلباً في المدى المنظور على الحراك الأدبي وعلى حركة التأليف والنشر، فنحن نعيش اليوم عصر التصحّر الفكري، وتقييد العقل، وأسر الحرية الفكرية وطمس العطاء، خصوصاً في البلاد التي تُعاني الخراب والدمار والإبادة ومحو الحضارات التي عمّرت قروناً... فالبلاد التي عانت وتعاني اليوم هي البلدان التي كانت أكثر عطاءً وإنتاجاً على هذه الأصعدة، بدءاً بلبنان ومروراً بالعراق وسوريا وفلسطين ومصر... لذلك أقول إن علينا أن ننتظر عقوداً كي نقرأ هذه الثورات على حقيقتها، ومدى تأثيرها في الحركة الثقافية العربية وربما العالمية.