مجلة الرافد الثقافية من المجلات الخليجية القيمة، لذا أحمل في سفري بعضاً من كتبها الشهرية حتى أقرأها في العطلة الصيفية. حملت هذا العام رواية قصيرة اسمها "جمعة" لكاتبها ياسين سعيد النعمان، والسبب الذي دفعني إلى قراءتها هو المقدمة التي كتبها د. عمر عبدالعزيز وهو كاتب مثقف كبير، قال إنها ذكرته برائعة ماركيز "قصة موت معلن" وإنها وضعت القارئ أمام زمن سينمائي دائري، والذي هو برأيه أصعب الأزمنة الروائية لاشتراطاته المرتبطة بتحقيق "زماكانية" فريدة حيث استخرج زمن الواقعية السردية الفعلي، وليتجول في المكان بوصفه ترميزا مكثفا لليمن، وقد تمكن المؤلف من تطويع ساعة النهار الوامضة لتبئير موضوعه كاشفا مساحات للديالوج، والوصف، و"ميتافورا" النصوص المُحايثة للفراغات الدلالية، والتكثيف. ويستطرد في حالة البطلة فيقول: جمعة إنسانة تموضعت جبرا خارج نطاق الإرادة الحرة للاختيار، وبترميز أقصى لمعنى الأوليغاريكية الأبوية التي تتمدد بقوة حضورها اللزج.

Ad

كما يرى أن الملمح الآخر للبعد المفاهيمي الدلالي في الرواية يقودنا إلى شكل من أشكال الواقعية السحرية بمعقول اللامعقول، المقرون بالصدفة والدهشة.

هذا اجتزاء من بعض فقرات المقدمة الطويلة التي دفعتني الى قراءة الرواية، واكتشف أن المقدمة النقدية كانت ثوبا واسعا على الرواية وتخب عليها، واستغربت من طريقة النقد الفضفاضة التي يمارسها بعض النقاد، وأؤكد على كلمة بعضهم، لأن هناك نقادا يكتبون نقدا فائضا عن النص أو لا يمت إليه بصلة، وهناك نقاد يكتبون نقدا يولدونه من النص الذي يكتبون عنه، فيأتي نقدهم إبداعا آخر يجاور إبداع النص ذاته، بل أحيانا يضيف إلى النص نقاطا إبداعية مضيئة تمنحه نورا على نور.

رواية "جمعة" ليست أكثر من قصة طويلة نسبيا، وهي تشبه أي لقاء يتم بين صديقين طال فراقهما، فمن بعد السلام سيختصر شرح وقص حال وحوادث سنوات الفراق في موجز سريع على الماشي وهو ما حدث في هذه القصة، حيث التقى البطل السارد في المرأة التي كانت جارته في حيهم القديم قبل أن يسافر للدراسة في الخارج، تنتقل هي إلى مكان آخر بعد موت والدها واستيلاء أخويها على الميراث كله، ومن ثمة تزوجها أمها لرجل سماها جوهرة لأنه ظن أن لديها ثروة، وحين علم بحرمانها من الإرث طلقها، وبالتالي تضطر إلى الزواج من آخر سيطلق عليها اسم فضيلة وطلقها حين طلبت منه ألا يقفل عليها الباب، والثالث سماها ولاء وكان مدعي ثقافة وطلقها حين نزع قناع ادعائه، والرابع سيد يخرج من الناس الجان، أطلق عليها اسم عهدة حيث طلب من أمها تركها عنده حتى يخلصها من الجني الذي راصدها، وبالتالي سيتزوجها ويغير اسمها إلى أصيلة ويسافر معها إلى قرية بعيدة وهناك تقبض عليه الشرطة بتهمة التحريض على الثورة، وبعد أخذهم له تنقطع أخباره وتقرر جمعة العودة إلى حيها القديم بعد أن ترك لها زوجها ممتلكات تعيشها وابنتها في حال أفضل، ومن ثمة تقرر العودة إلى اسمها الأصلي وهو جمعة، كل هذه الحوادث لم تأخذ أكثر من صفحة ونصف من القطع الصغير جدا، ما عدا الزوج الأخير الذي أخذ سرده بضع صفحات زيادة، وباقي الصفحات هي تحليل للسارد العليم الذي يسرد عن لسان جمعة ويشرح كينونتها بثقافة تفوق علمها وتعليمها المحدود.

حيرتني المقدمة النقدية للدكتور عمر عبدالعزيز، لم أجد أي ظل لهذه الواقعية السحرية التي تحدث عنها، فليس معنى أن يأتي والدها من مكان مجهول لهم ولا أن تأخذ الشرطة زوجها وتخفيه أن حالتهما هي واقعية سحرية، أين منها واقعية ماركيز السحرية الخرافية العجيبة، كما أن ذكر الأمكنة مر بعبور سريع، مجرد ذكر اسم المكان بدون رائحته أو تفاصيله أو صورته، فلم أجد هذا الترميز المكثف لليمن الذي ورد في المقدمة، وبالنسبة لتطويع السارد المؤلف لساعة نهار وامضة وتحويلها إلى إشعاع دائري لزمن آخر، بصراحة لم أشعر به فالقصة ليست إلا مرورا سريعا مختصرا لحوادث تحتاج إلى تعميق وغوص في تفاصيل حياتية تؤخذ من داخل شرايين وأعصاب الحكاية وليس قولها من خارجها العابر، وليقارن مفهوم الزمن في رواية "عوليس" للعظيم جميس جويس التي دارت حوادثها في يوم واحد كان دنيا بكاملها.