فارتان ملكونيان... من ميتمٍ في لبنان
إلى قيادة أوركسترا فيلارمونيا الملكية في لندن
أحيا قائد أوركسترا الفيلارمونيا الملكية في لندن فارتان ميلكونيان أمسية موسيقية كلاسيكية في كازينو لبنان شاءها بمثابة تكريم للدنماركية ماريا جاكوبسون التي أنشأت ميتماً للأطفال الأرمن ضحايا المجازر العثمانية (عام 1915) في جبيل (بيبلوس) اللبنانية وكان ميلكونيان من هؤلاء الأطفال بنفسه. وقدم ميلكونيان في الامسية مقطوعة موسيقية من تأليفه مؤلفة من 4 حركات موسيقية وكان من المفترض أن يعزفها للمرة الأولى في لندن إلا أنه أراد أن يخص لبنان بالمناسبة لأنه وطنه الأم.
ضمّت الطفل اليتيم إلى صدرها وكلّمته فاعتقد لجهله لغتها أنّ الملائكة تكلمه، وبقيت صورتها في ثوبها الأبيض بأزراره المتناسقة مطبوعة في خياله وفي قلبه إلى أن أصبح قائداً لأوركسترا فيلارمونيا الملكية في لندن.الطفل اليتيمتهجّر والدا فارتان ملكونيان من وطنهما إثر الإبادة التي اقترفها العثمانيون بحق الشعب الأرمني عام 1915 واستوطنا لبنان. وفي الثالثة من عمره وجد نفسه مع أخته وأخيه على باب ميتم في مدينة جبيل يدعى «عش العصافير». وقف الصغير عديم الشعور يتطلع نحو أترابه اليتامى، وإذ بسيدة ترفل بثوب ابيض تتقدّم منه وتركع على ركبيتها وتغمره بحنان لم يعهده سابقاً. وكلمته بلغتها الدانمركية فشعر كأنّ السماء أرسلت إليه ملاكاً يحتضنه. إنها ماريا جاكوبسون، الفتاة التي غادرت بيتها الجميل الواقع على ضفاف غدير يروي حديقتها آتيةً إلى جبيل لتدعم ميتم «عش العصافير» للأطفال الأرمن الذين فقدوا العطف والحنان والطعام بعد فقدانهم أهاليهم، فباتوا يلقبونها بالـ{ماما}.مصير غامضمرّت خمس سنوات مع «الماما» عوّض خلالها عن فقدانه أمه. وبدون أن يعرف كيف ولماذا وجد نفسه مع أخته وأخيه يسيرون في أزقّة العاصمة بيروت. وأجبرتهم الفاقة على امتهان مختلف الحرف ليتمكنوا من العيش، فباع العلكة ثم أصبح ماسح أحذية. وانقطع تواصله مع إخته واخيه وفقد الاتصال بهما. بحث عنهما وانتظر سنوات ولكن عبثاً فكأنّ الأرض انشقّت وابتلعتهما. تعرّف فارتان بعدها بفرقة موسيقية انكليزية في بيروت وعمل معها ثم سافروا جميعاً إلى لندن حيث تجلّت هناك «الأعجوبة».وفاء الصغيرجاهد فارتان في حياته كثيراً ولم ينس وطنه لبنان الذي كان يزوره مرتين في كل عام. وتشاء الصدف أن يلتقي ثانية بأخيه وأخته فتجمعهما رابطة الأخوة والمحبة. لكن خيال «الماما» لم بفارقه فكان يزور «عش العصافير» بيته الأول باستمرار ويتذكر تلك الأوقات التي كان يمضيها بقربها مع رفاقه. اجتاز فارتان بإرادته وموهبته جميع العوائق، وأحبّ الموسيقى فأبدع وإذا به يصبح قائداً لأوركسترا فيلارمونيا الملكية في لندن، بعد أن مارس الغناء والعزف والتأليف الموسيقي. ولما أصبح في قمّة إبداعه أنتج قصيدته السيمفونية «ممرّ ذكر البط» أراد إهداءها إلى «الماما» ماريا تكريماً لذكراها في وطنه لبنان.الاحتفال جلس العازفون السبعون على مقاعدهم يدوزنون آلاتهم وإذا بالقائد يطلّ مبتسماً بثوبه الأسود ونظارتيه المستديرتين. أمسك الميكروفون وشرع يخبرنا عن قصة تشرده إلى أن حدثت «الأعجوبة». ثم افتتح الأمسية بمقطوعة لابن وطنه الأصلي أرام خاتشاتوريان وهي الحركة الأولى من فالس الحفلة المقنّعة. كتب خاتشاتوريان هذه المقطوعة وهو يتخيّل الراقصين في ردهة أحد القصور يدورون في حلقات الرقص وتغطي وجوههم اقنعة كي لا يعلم أحد من هو رفيقه. وتحت أضواء الشموع المعلّقة على شمعداناتها يلفّ الغموض الأجواء وينتشر المرح. وانتقل «القائد» إلى بيتهوفن، صاحب المؤلّفات الخالدة، فاختار منها الحركة الأولى من السمفونية رقم 6 الريفية، التي وضعها الموسيقار الكبير وهو يتأمل في الريف فيخط على الورق ما يراه من انسياب مياه النهر وما يسمعه من حفيف الأوراق وما تمليه عليه الطبيعة من أنغام الطيور والفراش والهوام.وكانت الذروة لدى الحضور عندما قدّم مقطوعة «نحنا والقمر جيران» من وضع «الأخوين رحباني» وغناء فيروز. تذكر ملكونيان عندما كانت «ماما ماريا» تجمع الأطفال فوق إحدى الروابي في الليالي المقمرة وتخبرهم الحكايات المدهشة. كانوا يتطلّعون إليها بحرارة وشوق بينما أشعة القمر تتساقط على وجوههم وتضيء المكان فرحاً. تذكر تلك اللحظات الهادئة في حياته بعيداً عن التعاسة والحزن وأخذ يعيد النظر في توزيع موسيقى الرحباني حتى جعل منها مقطوعة كلاسيكية رائعة في أدائها. تعالى التصفيق في القاعة ولم ينته إلا بعد أن أسدل الستار على القسم الأول من الاحتفال.ملكونيان المؤلفلم يرض فارتان ملكونيان تقديم الحفلة الأولى لمقطوعة «ممرّ ذكر البط» في لندن. أرادها أن تكون تكريماً لماريا جاكوبسون في الوطن الذي أحبّته وحضنت أطفاله الأرمن فكانت الأمّ لمئات من المشرّدين. وهو الذي تعلّم منها كيف تكون فعلاً محبة الأطفال، وما يعانيه الصبية اليتامى في الأحياء والأزقة، رفع صوته ينادي في المحافل والنوادي ويعمل لأجل هؤلاء إلى أن أصبح سفير الأمم المتحدة لأولاد الشوارع.تتألف مقطوعة «ممرّ ذكر البط» من أربع حركات، وقد استوحى مناخها من الموقع الذي يلتقي فيه المحيط الأطلنطي بالمحيط الهادئ بين جنوب أميركا (رأس هورن) وجنوب جزر أنتاركتيكا والذي اكتشفه السير فرنسيس درايك (Drake) في العام 1578، وكلمة درايك بالانكليزية تعني ذكر البط.في هذا الموقع من المحيط ينشأ عالم آخر تسبح فيه الدلافين والحيتان وتحلّق فوقه طيور ألبتروس بأجنحتها الطويلة. من أعماق هذا المحيط العميق الذي تتصارع أمواجه كما تتصارع المشاعر في أنفسنا التقط ملكونيان نبضات موسيقاه.الحركات الأربعأطلق ملكونيان على الحركة الأولى من مقطوعته عنوان «المحيط القلق» حيث تلتقي أمواج المحيطين في مواجهة عنيفة ثم تتشتّت في كل اتجاه إلى أن تجد كل موجةٍ طريقها. إنّها صورة تشبه تماماً نزعات الإنسان في أوج غضبه وقلقه وحيرته إلى أن يلقى دربه الصحيح.الحركة الثانية خصّصها لتكريم ماريا في وداعٍ يحمل معه أرقّ مشاعر الحنان التي يكنّها قلب أمّ تجاه أطفالها. وفي هذا المقطع نلمس وفاء هذا الموسيقي لامرأة نادرة طالما أراد أن ينظم قصيدة لها فلم يتمكن إلا أنه كتبها في النهاية على أوتار قلبه. وتأتي الحركة الثالثة بعنوان «الأمواج المتكسّرة» لتتخبط الموسيقى فيها بعنفٍ وصراعٍ أبديّ يمثل صراع الإنسان في أعماقه بحثاً عن السعادة والاستقرار.وتختم المقطوعة الحركة الرابعة بمجيء «البطريق الامبراطور» الذي يمتلك جناحين ولا يستطيع التحليق. إنه ضائع حائر بين الأمواج، يبحث عن طريق الخلاص فلا يجدها. يتخبط يميناً ويساراً، يلتف ويقفز فوق الماء قفزات قصيرة إلى أن يجد مخرجاً ويعود إلى موطنه سالماً. وهكذا فعل فارتان ملكونيان في مسيرة حياته. لم يتوقف عن الجهد والبحث أبداً حتى بلغ هدفه وحقق طموحه ووجد عائلته. وها هو الآن يقف على المسرح معبّراً عن عرفانه لأنبل إنسان تعرّف إليه في وطن لن ينساه أبداً.