يواجه مجلس الاحتياطي الفدرالي محنة لأنه أمام أخطار غير متماثلة، فإذا رفع معدلات الفائدة في وقت قريب فإن قدرته على خفضها في حال تأثر الاقتصاد محدودة نتيجة عدم إمكانية خفضها إلى أقل من الصفر، وإذا انتظر حتى يصبح التضخم أقوى فإن لديه قدرة غير محدودة لرفع معدلات الفائدة لاحتواء ذلك التضخم.

Ad

منذ أن وصلت معدلات الفائدة الى أدنى مستوياتها في عام 2009 كان مجلس الاحتياطي الفدرالي الأميركي يكرر توقعاته المتفائلة حول موعد البدء برفع تلك المعدلات ليعاود الحديث عن تأجيله مراراً وتكراراً، وإذا كان تصرف ذلك المجلس من النوع الذي يتسم بالاندفاع فإن الأسواق كانت تعتقد على الدوام أن رفع الفائدة عملية وشيكة لتكتشف في وقت لاحق أن توقعاتها ذهبت أدراج الرياح، وعلى أي حال يبدو أخيراً أن اللحظة الحاسمة قد دنت، وفي اجتماع لجنة تحديد معدلات الفائدة المقبل يبدو من المؤكد أن مجلس الاحتياط الفدرالي سوف يقرر رفع تلك المعدلات.

ويتعين في هذا الصدد أن ننسب الفضل الى قوة سوق العمل، وعلى سبيل المثال فإن معدلات البطالة التي بلغت 5 في المئة هي المستوى الأدني الذي يعتقد معظم المحللين أنها ستصل إليه.

وتجدر الإشارة الى أن الولايات المتحدة فقدت خلال فترة الركود الاقتصادي 8.7 ملايين وظيفة ولكنها كسبت منذ ذلك الوقت 13 مليون فرصة عمل، وفي سنة 2010 كانت هناك نسبة تصل الى ستة أشخاص غير عاملين في مقابل كل فرصة عمل، أما اليوم فإن النسبة تبلغ 1.5 فقط.

ارتفاع الأجور

ثم إن الأجور التي تعرضت لركود طويل يبدو أنها تعاود النمو ثانية أيضاً، وفي سبتمبر الماضي عندما أشار مجلس الاحتياطي الفدرالي الى رفع معدلات الفائدة كان متوسط أجر ساعة العمل قد ارتفع بنسبة 2 في المئة – محسوبة على أساس سنوي – عن فترة الثلاثة أشهر السابقة، أما اليوم فقد ارتفع الى 2.8 في المئة، وبإجراء واحد فقط حققت الأجور زيادة بنسبة 4 في المئة خلال الربع الثالث من هذا العام، وتشير عملية تسارع الأجر الى أن الركود في سوق العمل قد اختفى بشكل تقريبي.

وعلى أي حال فإن التعافي في الأجور يمكن أن يتلاشى، ومنذ فترة الركود الاقتصادي هجرت مجموعات من العمال قوة العمل بصورة جماعية، ومشاركة قوة العمل بين من تبلغ أعمارهم 25 سنة الى 54 سنة في الربع الثالث من هذه السنة كانت أدنى من أي وقت مضى منذ عام 1984، وإذا رغب أحدهم في العودة إلى العمل فإن الأجور ستصبح أقل.

والأكثر من ذلك أن مقياس التضخم المفضل لدى مجلس الاحتياطي الفدرالي يصل الى 0.2 في المئة فقط، وهو أقل كثيراً من نسبته المستهدفة عند 2 في المئة، ويتحمل هبوط سعر النفط الكثير من المسؤولية وراء ذلك، ولكن أساس التضخم الذي يستثني أسعار الطاقة والغذاء المتقلبة – وكذا الحال بالنسبة الى المؤشر الأفضل لضغوط السعر الجلية – قد وصل الى 1.3 في المئة فقط.

رأي جانيت يلين

وتنسب رئيسة مجلس الاحتياطي الفدرالي جانيت يلين بعض التقصير الى قوة الدولار الأميركي الذي يجعل الاستيراد أرخص (وقد ارتفع الدولار بنسبة 19 في المئة منذ منتصف عام 2014)، ولكن ذلك التأثير يجب أن يتبدد في حال توقف صعود العملة الأميركية، كما يوجد مدى أقل أيضاً ازاء هبوط سعر النفط، وذلك بعد أن انخفض بحوالي الثلثين خلال السنة الماضية.

ويشير ذلك إلى احتمال ارتفاع معدل التضخم في العام المقبل، ويقال إن من شأن ذلك أن يدفع الى رفع معدلات الفائدة في وقت قريب نظراً لأن السياسة النقدية – كما يعتقد – كانت وراء التأثير المتأخر على الاقتصاد.

الأخطار الكامنة

ويواجه مجلس الاحتياطي الفدرالي محنة لأنه أمام أخطار غير متساوقة أو متماثلة، وإذا قام برفع معدلات الفائدة في وقت قريب جداً فإن قدرته على خفضها في حال تأثر الاقتصاد محدودة نتيجة عدم امكانية خفضها إلى أقل من الصفر، واذا انتظر المجلس حتى يصبح التضخم أكثر قوة فإن لديه قدرة غير محدودة لرفع معدلات الفائدة لاحتواء ذلك التضخم.

ويمثل تحقيق توازن صحيح في هذا الشأن مسألة محيرة وعسيرة، وتريد جانيت يلين التشديد على أن الشروع المبكر يجعل الرحلة سهلة وسلسة، كما أن الاضطرابات الناجمة عن الارتفاع المفاجئ اللاحق قد تهز الأسواق، وعلى الرغم من ذلك فإن توقعات مجلس الاحتياطي الفدرالي أكثر حدة وعمقاً مما تتوقعه الأسواق، وهو يتوقع ارتفاع معدلات الفائدة الى حوالي 1.5 في المئة بحلول نهاية عام 2016، وعلى العكس من ذلك، يتوقع التجار ارتفاع معدلات الفائدة بنسبة 0.85 في المئة فقط خلال سنة واحدة.

الجانب المصيب أمر يتوقف على كيفية ردة فعل الاقتصاد على الخطوة الأولى، ومن الصعب التكهن بذلك لأن الأقنية التي تعمل من خلالها السياسة النقدية تتسم بقدر من الغموض، ولننظر الى الاستهلاك الذي دفع النمو الأخير في الولايات المتحدة، فقد خفت تأثير معدلات الفائدة على انفاق المستهلك من خلال حقيقة أن معظم الرهونات العقارية الأميركية – بخلاف الكثير من الدول الأوروبية – تتم من خلال معدلات فائدة ثابتة ومحددة، وتحمي بذلك العديد من الأميركيين من التحولات في السياسة النقدية.

واضافة الى ذلك فإنه من غير المحتمل أن يسهم رفع معدلات الفائدة في ابطاء عمليات الاستثمار بقدر كبير، ويختلط رد فعل الاستثمار على معدلات الفائدة، وقد تكون ثقة الشركات العنصر الأكثر أهمية، وإذا كان رفع معدلات الفائدة - كما يظن البعض – هو مؤشر من جانب مجلس الاحتياطي الفدرالي على أن الاقتصاد الأميركي في وضع جيد وصحي فإن الاستثمارات قد ترتفع بقدر أكبر.

وهذا يطرح مسألة الصادرات، وإذا تسبب رفع معدلات الفائدة في دفع قيمة الدولار الى مزيد من الانخفاض فإن البضائع الأميركية سوف تصبح أكثر تكلفة في الخارج، وذلك التطور لن يكون موضع ترحيب من جانب المصنعين الأميركيين (وتشير دراسة حديثة الى انكماش انتاج المصنعين في نوفمبر الماضي لأول مرة خلال ثلاث سنوات)، ولكن ارتفاعاً آخر في قيمة الدولار غير محتمل نظراً لأن ارتفاع معدلات الفائدة أصبح متوقعاً على نطاق واسع في ديسمبر الجاري.

توقعات «الاحتياطي الفدرالي»

وعلى أي حال اذا مضى مجلس الاحتياطي الفدرالي في توقعاته وعمد الى رفع معدلات الفائدة في وقت أسرع مما تتوقعه الأسواق في عام 2016 فقد ترتفع قيمة الدولار بقدر أكبر وتخفض معدل التضخم بصورة سريعة.

وحسب تقديرات نائب رئيس المجلس ستانلي فيشر فإن الارتفاع بنسبة 10 في المئة في قيمة الدولار سوف يخفض التضخم بنسبة نصف نقطة مئوية خلال ستة أشهر، ومن غير المحتمل أن تعمد جانيت يلين الى رفع سريع في معدلات الفائدة إذا كان ذلك سيفضي الى دفع التضخم الى أقل من الحد المستهدف في الأجل القصير.

وقد يسهم مزيد من الهبوط في أسعار السلع في لجم هذا المسار، ومن شأن ذلك أن يعوق مستوى التضخم بصورة مباشرة، ولكنه قد يخفضه بشكل غير مباشر أيضاً من خلال رفع قيمة العملة الأميركية، ثم إن معظم التحسن الذي حققه الدولار في الآونة الأخيرة – على أساس التجارة – ينبع من ضعف العملة المكسيكية والدولار الكندي. ويقول بول آشوورث من كابيتال إيكونوميكس إن هاتين العملتين تضعفان عندما تهبط أسعار السلع.

الشيء غير المؤكد تماماً هو المسار الذي سوف تنتهي اليه معدلات الفائدة، ويتوقف ذلك على ما يدعى معدلات الفائدة "الطبيعية" التي توازن بين العرض والطلب، ومن الصعب تحديد ذلك ولكن يعتقد بصورة عامة أنها سوف تفضي الى هبوط، ويرجع ذلك في جزء منه الى تباطؤ النمو بشكل منهجي منذ الأزمة.

ويضع أحد الخبراء وهو جون ويليامس – وهو محدد معدلات فائدة – تلك المعدلات عند – 0.1 في المئة منخفضة عن 3.1 في المئة في سنة 2000. ويشير ذلك عند النظر الى هدف التضخم عند 2 في المئة الى استقرار معدلات الفائدة عند أقل من 2 في المئة في نهاية المطاف، وهذا معدل مثير للقلق لأن مجلس الاحتياطي الفدرالي وقبل الأزمة المالية عام 2007 كان يتمتع بفرصة خفض معدلات الفائدة بأكثر من 5 نقاط مئوية.

يذكر أن آخر مرة غيرت فيها السياسة النقدية طريقتها كانت في سنة 1947 عندما بدأ مجلس الاحتياطي الفدرالي برفع معدلات الفائدة من ثلاثة أثمان في المئة التي حددها لخمس سنوات، وقد لا يصل الانتظار لبلوغ ما يقارب الصفر في هذه المرة كل ذلك الوقت.