رافعة الحرم والتفكير التآمري

نشر في 21-09-2015
آخر تحديث 21-09-2015 | 00:01
لم تسلم الحادثة المأساوية المؤسفة التي وقعت في 11 سبتمبر 2015 في الحرم، والواضحة الوقائع، والمحددة الأسباب، والتي لا تحتمل أي تفسير أو ادعاء أو مزاعم، من «فكر التآمر»، وهو هاجس
لا يزال يحتل مساحة كبيرة من عقول قطاع كبير من العرب ونفوسهم.
 د. عبدالحميد الأنصاري بينما كان زوار بيت الله تعالى في سعيهم وطوافهم وتلبيتهم ودعائهم، هوت رافعة على جزء من المسعى والطواف بالمسجد الحرام، بسبب الرياح العاصفة التي بلغت سرعتها 60 كم في الساعة، والأمطار الغزيرة، لتسقط ضحايا من شهداء وجرحى.

وعلى الفور سارعت حكومة خادم الحرمين الشريفين بتشكيل لجنة تحقيق لمعرفة أسباب الحادثة؛ ليتخذ خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز قرارات فورية حازمة، بصرف تعويضات بالملايين لذوي المتوفين والمصابين، وتحميل جزء من المسؤولية التقصيرية لـ"مجموعة بن لادن"، وإيقاف تصنيفها لحين صدور الأحكام القضائية، وانتهى تقرير اللجنة إلى أن السبب الرئيس لسقوط الرافعة هو تعرضها لرياح قوية، في حين هي "في وضعية خاطئة" مخالفة لتعليمات التشغيل التي تنص على إنزال الذراع الرئيسة عند عدم الاستخدام، أو عند هبوب الرياح.

هذه الحادثة المأساوية المؤسفة التي وقعت مساء الجمعة 27 من ذي القعدة 1436ه الموافق 11 سبتمبر 2015 الواضحة الوقائع، المحددة الأسباب، والمعروفة مسبباتها، والتي لا تحتمل أي تفسير أو ادعاء أو مزاعم، لم تسلم من "فكر التآمر"، وهو هاجس لا يزال يحتل مساحة كبيرة من عقول قطاع كبير من العرب ونفوسهم- جماهير ونخباً- يفسرون به ما يحصل في الساحة من حوادث مؤلمة، ويحمّلون مسؤوليتها للآخر المتفوق الذي- حسب زعمهم- لا عمل له إلا التآمر عليهم، بهدف التحكم في ثرواتهم ومقدراتهم!

ولشيوع التفسير التآمري الذي أصبح بمثابة "الطبق اليومي" المفضل للعرب والأكثر تداولاً وقبولاً في الساحة الإعلامية، وضحت في مقالتي السابقة "هجمات سبتمبر وفكر المؤامرة" العوامل التي تساهم في ازدهار شجرة التآمر وترسيخ جذورها في الأرض العربية، كما بينت: لماذا يميل الرأي العام العربي وبعض النخب الفكرية والأمنية إلى تصديق أن هجمات سبتمبر الإرهابية التي أدمت أنف المارد الأميركي، وراءها مؤامرة أميركية أو صهيونية (الموساد) بالرغم من مرور 14 سنة ظهرت خلالها اعترافات المخططين والمدبرين، لكني لم أتصور مطلقاً أن تدفع أوهام التفكير التآمري وهواجسه، أحد أشهر خبرائنا العسكريين والاستراتيجيين، إلى اتهام أميركا بأنها وراء رافعة الحرم!!

يرى هذا الخبير العسكري الشهير- في مقطع فيديو متداول في المواقع الإلكترونية- في مداخلة له، عبر قناة فضائية، أن رافعة الحرم سقطت، بفعل برنامج أميركي اسمه (هارب) haarp، ينتمي إلى أسلحة الجيل الخامس، وهو برنامج بحثي للطاقة الفعالة ذات التردد العالي، وبموجب هذا البرنامج تستطيع أميركا أن تتحكم في الطقس والأحوال الجوية في أي مكان في العالم، بإثارة الرياح الهوجاء أو التيارات المدّية المدمرة (تسونامي) أو إنزال المطر بكثافة، وكل ذلك تحقيقاً لأهداف سياسية واستراتيجية معينة، وفي ظل هذا السياق يفسر خبيرنا العسكري أحداث تسونامي التي ضربت سواحل جنوب شرق آسيا والفلبين وعمان، كما يرى أن سقوط رافعة الحرم إحدى تجارب هذا السلاح "الجيوفيزيائي" الجديد!

لا أريد مجادلة خبيرنا العسكري في فعالية هذا السلاح وإمكاناته فهو أعلم مني، وهذا اختصاصه، لكني أتساءل كما تساءل كثيرون ممن شاهدوا الفيديو: ما مصلحة أميركا أن تسقط رافعة على زوار أبرياء لبيت الله الحرام، وهم من جنسيات شتى، وفي بلد صديق، وخصوصاً أن ملكه كان في زيارة ودية لها؟ هذا لا يتسق مع المنطق أو المصالح السياسية! ولماذا لم تجرب أميركا هذا السلاح المدمر في ضرب دولة معادية مثل كوريا الشمالية لشل فعالية تجاربها النووية مثلا أو ضد تنظيمات إرهابية تهدد أميركا مثل "القاعدة" و"داعش"؟!

أخيراً: ليس الهدف نفي مخططات التآمر، سواء صدقتها أم لم تصدقها، آمنت أم لم تؤمن بها، ولكن:

 1- علينا أن نثق بأنفسنا وقدراتنا وثوابتنا، كخطوة أولى لتحرير العقلية العربية من هواجس التآمر العالمي وأوهامه، نعم هناك صراعات وأطماع دولية، لكن يحكمها منطق المصالح لا التآمر، إذ لا توجد خطط سرية، فكل شيء مكشوف وعلني تقريباً.

 2 - علينا ألا نتخذ من مخططات التآمر شماعة لتبرير القصور والفشل والعجز والتردي، وإعفاء الذات من المسؤولية عبر تحميلها الآخر، فالقرآن يحملنا المسؤولية "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ"، ويطالبنا بالتغيير "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ".

 3 - لا يكون الإيمان بمخططات التآمر وأننا كما نردد دائماً "أمة مستهدفة" على حساب تغييب منهج "نقد الذات" والإفادة من الأخطاء ودروس الفشل، وتأجيل معركة الإصلاح، فما كان الآخر المتآمر ليصل إليك، وينفذ من ثغراتك، إلا بسبب ضعف تحصينك وقلة مناعتك، نتيجة إهمالك منهج الإصلاح الشامل، وعدم ترجمة مفهوم المواطنة المتساوية على أرض الواقع، والتمييز بين المواطنين في التشريع والمعاملة، وغياب قيم العدالة والمحاسبة.

 4 - لا يكون الإيمان بفكر التآمر سبباً في إنتاج وسيادة عقلية غير علمية، تربط الأحداث بغير أسبابها الحقيقية، فيصعب العلاج وتجاوز المعوقات.

 5 - لا يكون الإيمان بفكر التآمر عاملاً في شحن نفوس أبنائنا بـ"ثقافة الكراهية" ضد الآخر الحضاري المتفوق، فنخسر أبناءنا، ونبقى أسرى مقولات التآمر والغزو الفكري والتغريب المعوقة للنهوض والتقدم.

* كاتب قطري

back to top