وماذا بعد الحـرق؟
هل كنا بحاجة إلى المزيد من المصائب كي نندد ونصرخ محتجين على جريمة حرق الطفل الرضيع "علي سعد دوابشة" فجر يوم الجمعة 31 يوليو الماضي في قرية دوما بمدينة نابلس الفلسطينية؟ أم هي عادة تأصلت في ثقافتنا الوطنية التي ندعيها، وما زلنا نعيش على ذكرى بطولات قام بها جيل سبقنا وقدم الروح رخيصة فداءً للوطن السليب؟!الكثير من المفاهيم والعقائد الوطنية تغيرت، وبعضها تلاشى في ظل الاتفاقيات والمؤتمرات ولجان التحقيق التي سئمنا سيرتها، وهي التي لم تقدم إلا الوقت الإضافي الذي لم نستفد منه، إنما من أجل العدو الذي تمدد ورسم الخطط وأوقعنا في "حيص بيص!!"، ودبّ الخلاف بيننا على قضية لم نعد نملك مفاتيح الحديث عنها، ولا أبوابا تسمح لنا بالعبور من خلالها إلى هدفنا النبيل الذي تربى عليه جيل النكبة 1948 وما تلاه، وهو تحرير الأرض كاملة غير منقوصة.
هل ما زالت جذوة الحس الوطني مشتعلة، بعد الكثير من المحطات المثيرة في سيرة الشعب الفلسطيني ونضاله الذي لا يحتاج هنا إلى تفاصيل تتلمذ عليها كل ثائر في بقاع الأرض وتعلم منها؟الواقع الجديد يقول إن صاحبها "الفلسطيني" الآن يحصد الفرقة والتمزق الذي أصاب الأسرة والمجتمع كله بعد أن قـُضــِمت ظهور الفصائل المتناحرة فيما بينها سرا وعلانية، ولا نسمع لها صوتا إلا على استحياء أو "رفع عتب" كما سمعناه مدويا في ظاهره وخافتاً في باطنه حين أحرق الطفل "دوابشة"، وهو ليس الأول ولن يكون الأخير ما دمنا لا نزال لا نجيد ركوب البحر المتلاطم الأمواج، ونوجه اهتمامنا لتتبع عورات بعضنا بعضا "بشخصنة" القضية وتفريغها من قيمتها الحقيقية بجدل عقيم وأصبحنا "سخرية" القريب قبل البعيد!لم يكن الشعب الفلسطيني في حاجة إلى مصيبة كهذه لتقوم القيادة الفلسطينية بما يتوجب عليها القيام به، أو تكتفي بتلقي مكالمة هاتفية من رئيس وزراء الاحتلال لرئيس السلطة الفلسطينية يدين عملية الحرق في مسرحية دبلوماسية من الأول؛ كي يقول للعالم إنه ضد أي عمل "إرهابي"، وهي المرة الأولى في تاريخه التي يستخدم فيها هذا التعبير، وهو مدرك أن العالم اليوم شغله الشاغل هو "الإرهاب"، وأن دولته تقف مع العالم في التصدي للإرهاب، وذلك لاستباق أي ردة فعل عالمية على العمل الإرهابي بحرق الطفل الرضيع. إلا أنه وبعد أن قام بعض الفلسطينيين برشق سيارة للمستوطنين في بيت حنينا بزجاجة حارقة يوم الاثنين الثالث من أغسطس الحالي، أي بعد أربعة أيام على حرق الطفل الرضيع، سارع يطالب المجتمع الدولي بالإدانة قائلا: "ما زلت أنتظر من المجتمع الدولي إدانة تلك العملية، فكما دان المجتمع الدولي إسرائيل لمقتل الطفل "علي دوابشة" فإن عليه أيضاً أن يدين حادثة إلقاء الزجاجة الحارقة"، وهذا التصرف غير الناضح يعكس مدى التخبط في سياسته المتغطرسة.وكانت السلطة قد ردت باحتجاج منددة ومتوعدة برفع الأمر إلى المحكمة الدولية كعادة "استجدت" في القاموس السياسي الفلسطيني، الأمر الذي يرى البعض فيه ضعفا قاتلا للروح المعنوية للشعب الذي يتم تخديره بمثل هذه التصريحات، كلما حلّ به خطب من عدو لا يجيد إلا لغة واحدة، وهي الحرب أو التخريب على يد مستوطنيه الذين يجدون الرعاية الكاملة من جيشه المسيطر على كل منافذ المدن الفلسطينية وحدودها. إلى متى سيبقى الوضع على ما هو عليه من الانتظار لتلقي المزيد من الضربات الموجعة دون تصدّ فعلي لها؟! إن استجداء العالم القوي وانتظار "هباته" التي تمد شرايين الحياة الفلسطينية سيبقى سيفا مصلتاً على رقاب الشعب ما لم تقم له دولة معترف بها بحدود ارتضاها مـرغماً بما قيدته به الاتفاقيات والمبادرات.سنبقى نردد مع أصحاب الأمنيات الطيبة أن الحال لن تنصلح إلا بتقديم المصلحة الوطنية العليا على كل ما علق بالنفوس من ضغائن، ونتعاطى مع الحالة المعقدة لوضعنا العربي الجديد- الذي ينعكس على الوضع الفلسطيني- بكل ما فيه من تصادم برؤية تتبنى هذا الوضع، والبحث عن مخرج بأقل الخسائر، رغم أننا تكبدنا الكثير منها وما زلنا.* كاتب فلسطيني - كندا