بالنظر إلى مسببات كثيرة، أهمها الأنظمة الدكتاتورية القمعية في المنطقة العربية، وهزائم الحروب العربية الكبرى، وسقوط شعارات قومية عربية كبيرة، واقتتال فصائل عربية ثورية، وتبخر المارد الروسي بنظريته اليسارية بين ليلة وضحاها بعد سقوط جدار برلين. لهذه الأسباب وأخرى تاريخية وفكرية واجتماعية واقتصادية وثقافية، وجد الإسلام السياسي الدعوي أرضية خصبة ومتلهفة لاحتضانه بين شعوب المنطقة العربية. وإذا كانت أطروحات الإسلام السياسي، بمختلف توجهاتها، استهدفت بشكل مدروس فكر وعقول الناشئة والشباب في الدول العربية الفقيرة مادياً، فإنها بشكل منظم أيضاً استهدفت جيوب وأموال شعوب المناطق العربية الغنية، وعلى رأسها دول الخليج العربي.
على مدى ما يربو على العقود الأربعة اتجهت أموال التبرعات والمساعدات والصدقات في دول منطقة الخليج العربي إلى العمل الخيري ذي الصبغة الإسلامية، وليس من اعتراضٍ إطلاقاً على ذلك، فالصدقة والمساعدة والعون والإيثار صفات عظيمة حضَّت ودعت إليها العقيدة الإسلامية. لكن الأسئلة المخيفة التي ظلت تحوم في الفضاء دون إجابة هي: منْ يقوم بجمع كل هذه الأموال التي تتجاوز الملايين؟ وما مدى شفافيته وبعده عن تسخير هذه الأموال لخدمة مصالحه الخاصة؟ وإلى أين تذهب هذه الأموال؟ وكيف تُصرف؟ أسئلة كثيرة ومهمة، ظلت تطل برأسها خجلة ومقموعة بين آن وآخر، لكن دولاب الحياة ظل بدورانه الأبدي، وراح يكشف كل يوم ورقة لتقدم دليلاً أو إشارة توضح شيئاً من إجابات تلك الأسئلة.مع تفجر انتفاضات الشعوب العربية عام 2011، بدأت وجوه وتجمعات وأحزاب ومؤسسات كثيرة تزيح الغطاء عن سحن وجوهها. ويوماً إثر يوم بدأت الإجابات والحقائق تتضح أكثر، وانكشف المستور، وكان مخيفاً وما لبث أن أحدث زلزالاً رهيباً وحشياً في المنطقة، لتشتعل نار حروب عنفٍ وتصفيات عقائدية أهلية عربية عربية، تظهر أكثر التقارير والدراسات الاستراتيجية السياسية العالمية المتفائلة أنها ستبقى مشتعلة بجنونها لتأكل سنوات العقدين القادمين، وربما الثلاثة!في ضجيج الأزمات عادة ما يغيب صوت العقل، ويختلط الحابل بالنابل، لكن بالرغم من كل الجنون العبثي وفكر نفي الآخر والقتل الوحشي الذي تعيشه الأوطان العربية، فإن هناك ما يشير إلى أن الشعوب العربية تعيش انعطافة كبيرة، وربما هي الأكبر في تاريخها القريب، وأن هناك أنظمة ومنظمات وأحزابا وأفراداً، بدأت تفتح عينيها على اتساعهما لتراجع حساباتها، ولتعد العدة الفكرية والسياسية الاقتصادية للقادم من الأيام. وعلى رأس تلك العدة، إعادة النظر في كل فلس يتم تقديمه للآخر، أياً كان هذا الآخر.صحيح أن السواد الأعظم من شعوب منطقة الخليج مازال مأخوذاً ومنقاداً إلى فكرة العمل الخيري الإسلامي، وصحيح أيضاً أن التنبه الواعي المنطقي سيحتاج إلى سنوات كي يأخذ مكانه بيننا، لكن الصحيح أيضا أن أصواتاً بدأت ترتفع لتقول كلمة مغايرة، ومؤكد أن مبادرة الأستاذ عبدالله أحمد الغرير، أحد أبرز قادة الأعمال في دولة الإمارات العربية، تُعدُّ نموذجاً لافتاً، حيث انه خصص ثلث ثروته الشخصية وبمبلغ أولي يصل إلى (1.1 مليار دولار أميركي) لإنشاء مؤسسة عبدالله الغرير للتعليم، مما جعل سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات ورئيس مجلس الوزراء حاكم دبي يثني على هذه المبادرة، وكتابة أكثر من تغريدة على حسابه الخاص للإشادة بها.أكثر ما يلفت النظر في مبادرة الغرير أنها تتجه إلى التعليم، وكونها تسعى إلى توفير فرص الحصول على التعليم الجامعي للمتفوقين من العائلات المحدودة الدخل في الإمارات والعالم العربي، فنحن في مرحلة تاريخية إذا صحت كتابة عنوان عريض لها، فمؤكد أنه سيكون التعليم. فليس من مخرجٍ لنا أجمع من "دهليز" الظلمة الذي نتخبط فيه، سوى تأهيل أجيال جديدة بفكر إنساني علمي منفتح وعصري بعيد عن التعصب الديني. ألف شكر وتقدير للأستاذ عبدالله الغرير، وأمنية غالية بأن تكون مبادرته سابقة للعمل الخيري الخليجي العلمي بعيداً عن ملايين تذهب لتغذية الإرهاب.
توابل
الغرير بعيداً عن الإرهاب
15-07-2015