يعلن النقيب الياس عون في مقدّمة ديوان {أشياء الغزل} أن الشاعرة مها عبود باعشن ذات قصائد: «مترفات بالطيب، ومترنّحة على الحزن والقلق والتمرّد على الذات والسؤال عن المصير». ويرى عون شاعرته غائصة في أبحر الخليل على لؤلؤ نادر، وفاتحة نوافذ محبرتها على الشعر الحديث، وكيفما شهرت قلمها حوّلت الألم جمالاً، لأنّها ابنة المعاناة، ما يحفظ لها مكانها في هيكل الشعر..

Ad

من مستهلّ بوحها، توقد باعشن نارها الآخذة من الحبّ لهبها المقدّس، وهذه النار تتجوّل حرّة طليقة بين الروح والجسد، ممسكة بيد المحبّ بعيداً نحو شرفة الأبد: «أوقدتُ نارك بين الروج والجسد/ جعلتني في الهوى أحيا إلى الأبد».

    وما رحلة الحبّ سوى فرح يفتح أشرعة الروح ويكتب القلب أغنية دائمة: «صيّرتني في رحاب الكون أغنية/ بحبّها انطلقت كالبلبل الغرد». والشاعرة تجتاز عالم الجسد إلى أعماق الروح حيث يتموّج الحنين وينبت الحلم البكر الذي ينتظر من يدعوه إلى الحياة المتوّجة بالحبّ: «صافحتَ روحي بما للروح من شغفٍ/ عانقتَ أمنيةً عذراء في خلدي». وتطرب باعشن لحبيب قرأها غوصاً على جواهر الأعماق لا تصفّحاً بعين تمرّ باللآلئ مرّ الريح، وتعلن أنّ الدر يتطلّب بعضاً من الغرق الجميل إليه إذ إنّه لا يتنازل عن إبائه وقيمته ليعلو الماء مع الزبد: «قرأتَني في الهوى غوصاً على دُرري/ والدرّ في البحر لا يطفو مع الزبد»...

وللحبّ عند الشاعرة قدرة على مواجهات وجوديّة وكأنّ له سلطاناً ما أعطي لإنسان: «معاً تستبدّ بهذا الوجود/ وعمر السعادة دوماً قصير». ولا يقف الحبّ عند هذا الإنجاز والتفرّد فقط، فهو يعيد صياغة أهله على نول النّور، ويجعلهم مستضيفي البدور على شرفات أرواحهم: «أحبُّكَ نوراً يلفّ كياني/ ويرسم بدراً إليّ يسير». وإذا كان من وجود لحاكم يستبدّ ويُشكَر فليس سوى الحبيب يعتمر تاج الإمارة ناهياً آمراً على طاعة مسرورة من حبيبه: «وتحيا بقلبي كأنّك حلم/ فتنهى وتأمر مثل الأمير». وتعرف باعشن كيف تؤبّد لحظة العشق بالكتابة وكيف تجعل من الكلمة طائراً خرافيّاً يرفّ في فضاء القصيدة: «كتبتُك شعراً وقلبي يطير/ ففي كلّ حرف جناح صغير». أمّا الحبيب فهو المحمول على عرش القوافي محتضناً بعينيه سؤالاً قد يكون أجمل ما فيه أنّه بلا جواب: «حملتُكَ فوق القوافي تدور/ وفي مقلتيك سؤال كبير»... ولا يتأخّر القارئ ليكتشف أنّ الشاعرة تتساهل مع ذاتها في القصيدة الواحدة، وتترك تفاوتاً ملحوظاً على المستوى الجماليّ بين البيت والآخر، ما يسيء إلى النصّ بشكل واضح، في حين أنّها تستطيع، بكلّ بساطة، الاستغناء عن الأبيات التي لا تجدها منسجمة مع مستوى القصيدة التي تؤدّيها...

الإبحار حباً

    ولا تتعب باعشن من الإبحار حبّاً، لتبقى نغمةً طالعة من قلب ذي أوتار كأنّه عود الشوق والحنين: «أوتار قلبي جُمِّعَت/ والقلب أشواق تنادي»، وفي تربة الهوى تنضج سنبلةً تحنّ إلى منجل حصّادها بعدما صار لها من حبّاتها تاج ذهب: «أنا حبيبة هَوَت/ حنّت إلى يوم الحصاد»، وما القلب إن لم يكن حقلاً مباركاً بما فيه من قوت يبقي الحبّ على قيد الحياة: زرعتُ حبّاً قد غدا/ سنابلاً ملء فؤادي». وتعرف الشاعرة أنّ للحب نعيماً من السلام وجحيماً من الشكّ، وها هي تتلقّى في قلبها إبَر الشكّ حين الليل يحاول قليلاً من السلام لها: «آلام الشكّ تساورني/ وصديقي الليل يسامرني»، وفي مواجهة الشكّ يزور الحبّ فيُطرَد عن أبواب القلوب، ليعود ويدخل بوساطة من الشوق لا تُرفَض: «يأتيني الحبّ فأطرده/ ويجيء الشوق فيأمرني»... والخوف من الصبح كبير، لا سيّما إن لم تحمل شمسه حبيباً إلى حبيب: «والليل يودّع أنجمه/ فالصبح عدوّ ينذرني»... وترى باعشن الجمال ولداً شرعياً للحب، فكأنّ العين تراه بما فيها من عشق وليس بما فيها من نظر: «لأنّي أحبّ أعيش الجمال/ وأرسم كوناً تعدّى الخيال»، ومن جمال الألم تقبيل حدّ الخنجر حين يكون في يد حبيب، ولثم الخدّ الذي يأخذ حمرته من دماء من يحبّ: «وألثم خدّاً يعبّ دمائي/ وأكتب شعراً بصدق يقال»، إلاّ أنّ هذا التقبيل وذاك اللثم لا يسيئان إلى الكبرياء فيبقى للمقبّل واللاثم ورده الذي لا تصل إلى عطره يد: «يغازل منّي خدوداً كوردٍ/ ووردي عزيز بعيد المنال»...

    وتصرّ الشاعرة على معانٍ معيّنة تبدو أسيرتها من قصيدة إلى أخرى، دون أيّ تجديد لافت على مستوى الصورة: «صرنا بأمر الحبّ ما العجب/ لحناً بديعاً صاغه الطرب»... وربّما يعود ذلك إلى التفاوت الزمني في كتابة القصائد التي كانت تحتاج إلى غربلة تقيها التشابه... غير أن باعشن تعرف، رغم تكرار المعاني، أن تفاجئ قارئها بما هو جديد، فها هي في قصيدة «بأمر الحبّ» تحتفل بالطبيعة داعية إيّاها إلى الحبّ الكبير، حين تعدو وحبيبها والنهر الذي يتوق خريره إلى ذهب الشمس: «ونسبق الأنهار من وَلَهٍ/ إلى سهول شمسها ذهب»، وحين تكون الطبيعة ذات ورد على غيرة من ورد ذي خدّ: «نسير فوق الزهر في خفرٍ/ والورد في الخدّين يلتهب». وفي حضرة الحب يتوارى الجسد وينسحب، لتمسي الروح مزهريّة تحتضن أجمل أزهاره: «بالروح نحيا ما لنا جسد/ فالحب سهم ما له أرب»...

في «أشياء الغزل» أدّت الشاعرة مها عبود باعشن قصيدة عاشقة وطوّقت عنق الحبّ بعقد من القوافي الحلال.

يا حب

    في قصيدة «يا حبّ»، تقرّ باعشن بأنّ الحبّ على صغره لا ينجو منه كبير: «يا حبّ أنت الأصغر/ كلّ كبير تأمر»، وبأنّه لا يكتفي بالابتسامة تعلو شفتيه إنّما هو أيضاً ذو نابٍ خلف الشفة وذو ألم بعد كلّ كأس فرح: «تهوي علينا باسماً/ ثمّ بنابٍ تظهر»، والحبّ يحرّض القدر على السخرية من البشر فكأنّه قدر هو أيضاً يصارع أقداراً: «نخاف من أقدارنا/ إذا أتتنا تسخر»، وبين قدرٍ من صناعة الدنيا وآخر من صناعة الحبّ لا تتردّد الشاعرة في الاستسلام لمشيئة القدر الثاني ولو أنّه ليس سوى بوصلة تقود إلى الهباء: «نطيع إن سرتَ بنا/ مثل الهباء نُنثَر»، وإذا كان الحبّ صغير ولادة، غير أنّه يعرف كيف ينمو ويكبر على حساب هزائم أهله وانتصاراتهم: «الحب أمر واقع/ فكلّ يوم يكبر». ولا يفوت باعشن أن تخاطب الرجل المنحني لجمالها وتدلّه على ما في الداخل من جمال هو الأثمن والأندر. ففي روحها تقيم محبّة بلا نهاية: «محبّة في مهجتي/ تمحو أباطيل الدّلال»، وفي أعماق وجدانها حكمة على علاقة خصبة مع الخيال العاقل: «وحكمة في خاطري/ تفوق أشياء الخيال»... وتعتبر الشاعرة أنّ جمالات الجوهر هي التي تسير بالحبّ نحو كماله: «أنا أميرة الهوى/ أمشي به نحو الكمال»...