كانت التغييرات التكنولوجية تشكل دوماً تحدياً ماثلاً أمام الشركات، ولكنها، كما أكد لنا مرة أخرى عام 2015، لم تحدث من قبل قط لا بالسرعة ولا بالنطاق الواسع الذي تحدث به اليوم، ومع انتشار الابتكار عملياً في كل القطاعات، من الصناعة الثقيلة إلى الخدمات، يتبدل المشهد التنافسي، لتقف في صدارته الشركات الأكثر تطوراً، بدلاً من الشركات الأكبر حجماً أو الأعرق وجوداً في السوق.

Ad

وأصبح العزل خطراً حقيقياً يهدد الكيانات المهيمنة، وهبط متوسط استمرار الشركات في العمل وفقاً لمؤشر «ستاندرد آند بورز» 500 من 90 سنة عام 1935 إلى أقل من 18 سنة اليوم، واللاعبون الخطيرون الجدد، مثل «أوبر» التي قلبت صناعة التاكسي رأساً على عقب، هم منافسون أشداء غالباً ما ينتزعون حصصاً من السوق بتحويل المزيد من الفائض إلى المستهلكين، وما هذا سوى جزء من نزعة أوسع نطاقاً لاحتدام المنافسة التي يمكنها في غضون عقد واحد من الزمن، وفقاً لبحث أجراه مؤخراً معهد ماكينزي العالمي، تخفيض مجمع الربح العالمي بعد خصم الضريبة من قرابة 10 في المئة من إجمالي الناتج المحلي العالمي اليوم إلى المستوى الذي كان عليه في ثمانينيات القرن المنصرم، أي قرابة 7.9 في المئة.

تؤثر التكنولوجيا على المنافسة إلى حد بعيد بسبب قوة الأسس الرقمية، أي المعدات المادية والبرامج والتطبيقات، وبسبب تأثير الشبكة، إذ تُقلص الأسس الرقمية الحديثة التكاليف الحدية، أي تكلفة إنتاج وحدات إضافية من السلع أو الخدمات، إلى قرابة الصفر، فإذا أضاف المستخدم، لنقل مثلاً، تطبيق «خرائط غوغل» إلى هاتفه فلن يكلفه هذا شيئاً يذكر، لأن هذه الخدمة قائمة على البيانات التي يوفرها النظام العالمي لتحديد المواقع، والذي يتم بالفعل تخزينه سابقاً في تلفون المستخدم، ويسمح هذا لـ»غوغل» بتوسيع نطاق عملها بمعدل سرعة قد لا يمكن تصديقه، ومن ثم يستفيد من هذا، ومن العامل المريح المتمثل بامتلاكه منفرداً لمنصة تكنولوجية، للانتقال إلى قطاعات مجاورة، مثل الموسيقى «في غوغل بلاي» وتسديد الفواتير «في غوغل واليت» ومعالجة النصوص «في غوغل لتحرير المستندات»، وعلى هذا النحو قد تسارع شركات التكنولوجيا بتحدي الكيانات المهيمنة في صناعات يبدو ظاهرياً أنها غير ذات صلة.

وبالطبع، ليست شركات التكنولوجيا هي الطرف الوحيد الذي يقدم الابتكارات، إذ تقوم حفنة من الشركات الرائدة في كل صناعة عملياً بنشر التكنولوجيا الرقمية بطرق مستمرة التطور، وتحصد في المقابل مكاسب ضخمة، فاستخدام أجهزة الاستشعار لمراقبة المواشي، على سبيل المثال، يؤثر تأثيراً بعيد المدى على صناعة الغذاء.

ولكن، تظل القطاعات الأكثر تطوراً من حيث التكنولوجيا الرقمية تحقق التقدم الأكبر، ومن المؤكد أن هامش الربح، طوال العقدين المنصرمين، في هذه القطاعات الغارقة في التكنولوجيا، قد نما مرتين أو ثلاث مرات، في المتوسط، أسرع من باقي قطاعات الاقتصاد، حتى بين القطاعات الأكثر تطوراً، هناك فجوة عميقة بين الشركات ذات الأداء الأعلى وبقية الشركات، وعلى سبيل المثال عروض البيع بالتجزئة للبنوك المتعددة الجنسية التي تستخدم تكنولوجيا رقمية متقدمة فاقت إلى حد بعيد عروض اتحادات الائتمان المحلية.

وبينما تواصل التكنولوجيا تغيير أنماط وعمليات البزنس، بدلت أيضاً الطريقة التي يعمل بها الموظفون، وتوصل بحث أجراه معهد ماكينزي مؤخراً إلى أن التكنولوجيات التي أثبتت جدواها بالفعل يمكن أن تؤدي إلى الاستعاضة عن الإنسان بالآلات في ما قد تصل نسبته إلى 45 في المئة من الأعمال التي تدفع الشركات للأفراد مقابل أدائها، وفي الولايات المتحدة وحدها يعادل هذا قرابة ترليوني دولار أميركي من الأجور السنوية.

وبالنسبة إلى الشركات، تمتد المكاسب المحتملة لهذا التحول إلى أبعد بكثير من مجرد توفير التكاليف، إذ سيتوافر للعاملين الوقت لتنفيذ مهام تنطوي على قيمة أعلى، بما في ذلك التفكير النقدي والإبداع، وسيكون بوسع المستشارين الماليين قضاء وقت أقل في تحليل البيانات المالية وتكريس وقت أطول لوضع حلول تلبي احتياجات العملاء، أو سيكون بوسع مهندسي الديكور الداخلي تحويل اهتمامهم من مجرد أخذ المقاسات إلى ابتكار أفكار في مجال التصميم، وإلى الاجتماع بالعملاء أو التزود بالمعدات اللازمة.

وتسمح التكنولوجيا أيضا للشركات بإعادة التفكير في الحكمة التقليدية حول التخطيط التنظيمي والحوكمة، وتوفر تكنولوجيات تبادل المعلومات قدراً أكبر من الشفافية، مما يجعل المؤسسات أكثر كفاءة، وفي حالات عديدة، أقل بيرقراطية.

وعلى سبيل المثال، تبنى المديرون التنفيذيون بشركة أبل وشركة إنديتكس (شركة ملابس متعددة الجنسيات) وزابوس (موقع كبير لتجارة التجزئة على الإنترنت) نهجاً في الإدارة يسمح بقيام مدير واحد بالإشراف على عمل عدد كبير من العاملين، عدد يتجاوز النموذج التقليدي بكثير: «مدير لكل أربعة عاملين أو ثمانية عمال»، وأعادت شركة هاير الصينية لإنتاج الأجهزة المنزلية تنظيم قوة العمل بها والتي بلغ عددها 80 ألف عامل، فقسمتهم إلى ألفي وحدة مستقلة كل منها مسؤولة عن إدارة أرباحها وخسائرها، لترتفع بعد هذه الخطوة القيمة السوقية للشركة ارتفاعاً كبيراً بلغ عام 2014 ثلاثة أضعاف عما كانت عليه عام 2011.

هذا فضلاً عن أن التحول إلى التكنولوجيا الرقمية يسمح للشركات بالعمل كـ»أسس» تكنولوجية لا كـ»هياكل» عمل تقليدية، ويسمح بزيادة الاستفادة من الموارد من خارج هذه الشركات، ولقد استعانت شركة أليستات للتأمين بخدمات كاجال للتمويل الجماعي لدعوة مبرمجي الكمبيوتر للتوصل إلى حل جديد بشأن مشكلة الأضرار التي تصيب السيارات من جراء الحوادث، وكان النموذج الفائز أكثر دقة بنسبة 271 في المئة من النموذج الحالي.

تماماً مثلما حدث مع شركة دي جي آي (DJI) الصينية التي أصبحت أكبر شركة في العالم لإنتاج الطائرات بدون طيار، حين ركزت على تطوير التكنولوجيا الأساسية لمنتجاتها، وتخلت عن نماذج المجموعات المجانية من المطورين الهواة للبرامج، وأطلقتها مجاناً على الإنترنت ليتمكن آخرون من بناء تطبيقات باستخدامها، الأمر الذي يعني أن طائرات شركة دي جي آي بدون طيار قد جُهزت بميزات جذابة في وقت يسبق كثيراً الوقت الذي قام فيه بذلك منافسوها الذين اعتمدوا في تطوير التطبيقات على جهودهم الذاتية الداخلية.

ويمكن رؤية ابتكارات تكنولوجية مماثلة في عمليات التفكير، وفي نماذج «البزنس» في مختلف قطاعات الاقتصاد، وتنعكس هذه الابتكارات في التغييرات بعمليات التخطيط بالشركات، التي بدأ بعضها بوضع خطط متميزة لـ»البزنس» لشهرين وعشرين عاماً، وفي إعادة توزيع مواردها بقوة أكبر، وفي استخدام تقنيات تحليل جديدة لتحديد الموهوبين وجذبهم وتطويرهم والاحتفاظ بهم.

ويمكن الابتكار التكنولوجي الشركات بالفعل من تعزيز قدراتها، وبالتالي قوتها التنافسية، ولهذا السبب يجب أن تكون مهمة تحويل المكونات الأساسية لـ«البزنس» إلى رقمية وإعادة التفكير في التخطيط التنظيمي وعمليات الحوكمة على رأس أولويات المديرين التنفيذيين عام 2016، والسبيل الوحيد لتجنب التخلف عن الآخرين يتمثل باقتناص هذه «الموجة الرقمية» لسريعة الحركة والسريعة النمو.

* دومينيك بارتون، المدير الإداري لشركة ماكينزي آند كومباني.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»