قبل عقدين من الزمان من موقفِ أدونيس، الذي تحدثتُ عنه في الحلقة السابقة، بشأن إنكار المعيار الأخلاقي في الشعر واعتماد المعيار الجمالي، كان له موقفٌ متعارضٌ تماماً، وأكثر جذرية؛ ففي كتابه الممتاز "الشعرية العربية" (دار الآداب 1985)، وهو مجموعة محاضرات ألقاها في الكوليج دو فرانس، يعود، في فصل "الشعر والفكر"، إلى ظواهر حول الشعرية والفكر عند العرب، تبخَسُ حقَّ الشعر كمصدر للمعرفة والوعي. فالشعرُ "بالنسبة إلى العرب الذين نظروا إليه، إما أنه (ممتعٌ مُطربٌ)، وإما أنه (منفيّ مطرود)... والشعر في أحسن ما يوصف به، لعب ومحاكاة وتقليد". (ص58)
وربما كان في هذا ما يفسر دينياً قصرَ الشعر على الإحساس، والفصلَ بينه وبين الفكر، فليس للشعر أن يتجاوزَ أولَ العلم، وهو ما يتيحه الحس، أما ما تجاوز الحسَّ فهو للدين، ومن هنا ساد الاعتقاد بأن الشعرَ عاجزٌ بطبيعته، أن يقدمَ معرفةً، أو يكشفَ عن حقيقة، لأنه كمثل مصدره، وهو الحس، خادعٌ وباطل. فلا ندرك الحقيقةَ بالشعر، بل بالدين وحده، ويكون دورُ الشعر حصراً توفير المتعة الجمالية ــ كما يتيحها الدين ــ ويضع حدودها.وفي هذا ما يخالف جذرَ الكلمة، فهذا الجذرُ يتيح لنا أن نعيدَ النظرَ في المصطلح السائد في الشعر، وأن نوحّدَ بينه وبين الفكر، من حيث إنه لا يكتفي بأن يُحسَّ بالأشياء، وإنما يُفكرَّ بها. (ص59)ثم يُضيف أدونيس، توكيداً لهذا الموقف النقدي: "إن ما نفتقده في النظرية، نراه في النص الإبداعي، فهذا النص الذي نجده عند بعض الشعراء من جهة، وعند بعض المتصوفين من جهة ثانية، يخترق تلك النظم المعرفية وتنظيراتها، إذ إنه يحقق في بنيته وفي رؤيته علاقةً عضويةً بين الشعرية والفكرية، ويفتح أمامنا بحدوسه واستبصاراته أفقاً جمالياً جديداً، وأفقاً فكرياً جديداً". (ص60)أفقُ أدونيس النقدي هنا بالغ الصحو والوضوح والعافية، وعلى هدى هذا الأفق النقدي وضع نصين رائعين في أبي نواس والمعري، فيهما تجد كم هي مضاءة دفقة التغيير في الحياة والفكر والأخلاق: "هكذا نستشف دائماً وراء النص طريقاً للمعرفة خاصة، ونظاماً أخلاقياً خاصاً". (ص62). علاقةُ الشعر بالأخلاق بالغةُ التعقيد، وليست باليسر الذي وضعها فيه أدونيس في مرحلته المتأخرة، وكثيرون غيره من شعراءِ ونقادِ العربية، لأن القيمةَ الجمالية قيمةٌ جوهريةٌ في الشعر، ومن يشك في هذا؟ على أننا نحتاج إلى أن نعرف أين تكمن؟ كما أن القيمةَ الأخلاقيةَ جوهريةٌ هي الأخرى. غير أن المشكلةَ تكمن في أن النقادَ يحاولون معظمَ الأحيان وضع القيمتين مستقلتين بعضهما عن بعض، مع أنهما، في التجربة الشعرية، غير منفصلتين. المفكر البلغاري- الفرنسي المعروف تودوروف، في ملف "الأخلاق والفن" في مجلة Salmagundi الأميركية (صيف 1996)، يوضح الأمر بيسر أكثر: "الشعرُ يسعى إلى صلاح ذي طيتين لعالمنا، أولاً عبر إضافة الجمال إليه، شأن الفنون جميعاً: فرائع أن تعيش في عالم يتوفر على موسيقى شوبرت. والثاني أن الشعرَ يسعى، شأن كل فن يشير إلى مدلول خارجه، إلى جعل العالم أكثرَ وضوحاً، وأغنى معنىً، وبالتالي أفضل، لا لأن الشاعر يصرّح بمبدأ أخلاقي، أو بمبدأ أكثر أخلاقية من مبدأ آخر، لصلاح العالم، بل لأنه يكشف لنا الحقيقة، فالشاعر لا يخضع لمعيار أخلاقي خارجي، أو يُملي درساً في الأخلاق، فهو عبر إنجاز عمل جميل، وذي معنى، يقدم لنا واجبه الأخلاقي". إن شاعرين كبيرين مثل أبي نواس وأبي العلاء، على سبيل المثال، يبدوان متعارضين بصورة حادة، فالأول يجد الحقيقة في مسراتِ الدنيا ولذائذها، ولا يتطلعُ إلى ما بعد الدنيا، والثاني يجدُ الحقيقةَ في العزلةِ وإماتةِ الرغائبِ والتطلعات، ويحدّقُ في المصير الذي يراه هوةً. والواقع أنهما يبدوان للبصيرة الشعرية قريبين من بعض بصورة فائقة: إذ كلاهما يسعى إلى الجمال وإلى الحقيقة، عبر معانقة الحياة الحاضرة، أو عبر معانقة التساؤل الشارد خارج الزمان كله. كلاهما يقول: "ديني لنفسي ودين الناس للناس"، وبفعل صدقهما في هذا المسعى يقدمان لنا واجبهما الأخلاقي دون شوائب.
توابل - ثقافات
الشعر والأخلاق (3)
17-09-2015