احتفاءً بـ «سيبَليوس»
![فوزي كريم](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1498033753948674500/1498033754000/1280x960.jpg)
وليس غريباً أن يذكرني سيبليوس بالموسيقي الإيطالي روسّيني، فهو بعد عمله «تابيولا» توقف عن التأليف إحدى وثلاثين سنة، التي انتهت بوفاته. الأمر الذي حدث مع الإيطالي الفاتن. لماذا؟ يجتهدُ الدارسون بالعلل والأسباب. فمنهم من يرى العلةَ في نقده الذاتي البالغ الصرامة لأعماله، ومنهم من يراها في حياة الرفاه التي حققتها له رعايةُ الدولة، فانصرف إلى الخمرة انصراف المدمن، والتي كان يسميها بـ»صديقي الأصدق». ولكنني لا أثق باجتهادات النقاد، فالمبدع في الموسيقى، وغير الموسيقى، قد ينضب موهبةً وإلهاماً. وتوقفه كجريان الماء في الطبيعة لا عيب فيه. العيب في أنْ يهينَ الطبيعةَ، استجابةً لغريزة متدنية. وبالرغم من ولعي بسيبَليوس، واحتفاظي بأعماله الكثيرة، لكن العمل الذي يُدعى «كل إنسان»، وهو عمل درامي قصير، كان متعةً مفاجئة. فهو يعود كنص إلى الشاعر الألماني هوﮔو ﭬون هوفمانسثال، الذي اشتهر بتعاونه كشاعر مع ريتشارد شتراوس كموسيقي، في حقل الأوبرا. وأصل العمل الدرامي يعود بدوره إلى ما يُسمى بـ»مسرح الفضيلة القروسطي». وضعه سيبليوس عام 1916، وبعد أن حقق نجاحاً في العرض، طواه النسيان.الحكاية في هذه الدراما الدينية القصيرة بالغة البساطة. والجميل أن سيبليوس يلحّ على متابعةِ نبضِ النصِّ الشعري بنبض الموسيقى. فالبطلُ يُدعى «كل إنسان»، والاشارة في التسمية واضحة، يتعرض لغضب الله بسبب خطاياه. ثمة أجراسٌ توحي بالنذير، وسط لحن درامي يعلن أمراً إلهياً بموته. في حين يكشف لحنٌ متسارع تالٍ، بلمسةٍ بالغةِ الرهافة والرشاقة، عن انغمار البطل بمأدبةِ ملذات باذخة. يطرُ المحتاج ويتعبّد الثروة، ولا يلتفت إلى تضرعات أمِّه. بعدها تصلنا أغنيةٌ ذات بوح كنائسي، ثم أغنيةُ «الغابات تصبح خضراء»، التي تُسعد البطلَ قليلاً، قبل أن تعودَ إليه أجراسٌ النذير. ولكن في غمرة الموسيقى الاحتفالية التي تصف تهيامه بالملذات، يُقبل الموتُ لإنجاز مهمته. هنا يتضرع البطلُ من أجل صحبة تعينه في رحلته الأخيرة، ولكن ما من مساعد إلا امرأةٌ مسنة (العمل الصالح)، وأختُها (الإيمان)، تُقبلان من أجل إنقاذه، ولهما يستسلم نادماً ومصلياً عبر لحن كورالي، مستوحىً من موسيقى باخ، على صوت الأورﮔن. هنا يظهر الشيطان، مع موسيقى بالغة الزخرف، طامعاً بإعادة روح البطل إلى الرذيلة. ولكن الأختين المُسنّتين تحولان دونه، وتعود الأجراس الأولى، ولكن بغيطة هذه المرة، معبرةً عن دحر الشيطان، وعن الحياة الأبدية.توفي سيبليوس عن واحد وتسعين عاماً، وعُزف هذا العمل في جنازته.