النزعة القومية في الموسيقى الكلاسيكية بدأت على أثر حركة الاستقلال في عددٍ من دولِ الغرب، محاولةً لتوكيد الطابع المحلي، عبر الأغنية والفولكلور وحكاية الأوبرا، وانتزاع الموسيقى من هيمنة الموروث الموسيقى الذي أرست دعائمَه بعضُ الدول المهيمنة موسيقياً، كإيطاليا وفرنسا وألمانيا. وقد قدم عددٌ من تلك الأوطان أبرز موسيقييه، من تتمتع أعمالُه بالسمة الوطنية، ممثلاً لها. فـﭙولندا التي تحررت من روسيا قدمت سيدَ الـبيانو «شوﭙان»، وإيطاليا سيدَالأوﭙرا «ﭬيردي»، وإسبانيا «دي فايا»، والقائمة تطول. ولكن سيبَليوس يظل أوضح الأمثلة، وبلده فنلندا أكثر البلدان حماسة في إعلاء شأنه. فمنذ عام 2011 صارت تحتفل بـ«يوم العلم»، الذي سمي بـ»يوم الموسيقى الفنلندية»، في الثامن من شهر كانون الأول من كل عام، وهو يوم ميلاد سيبَليوس (1865 - 1957).

Ad

هذا العام تحتفل الأوساطُ الموسيقية ودورُ نشرها، بمرور مئة وخمسين سنة على ميلاده. وNaxos، أنشط دور النشر هذه السنوات، تواصل إسهامَها في إعادة نشر عدد من أعماله. وسيبَليوس، الذي يحمل أصداءً من موسيقى الروسي تشايكوﭬسكي، ويميل إلى النحاسيات من آلات الموسيقى، وإلى الهوائيات التي تعكس أعماق الغابات والوديان، خَبرَ روحَ بلده الغامضة، المشبعةِ بالأسطورة. سيمفونياتُه السبع تعكس ذلك، وكذلك كونشيرتو الفايولين الرائع، والعديد من أعمال «القصيدة السيمفونية»، التي استوحاها من حكايات بلده فنلندا. وعادة ما تُحس بتماسك في ثيمات عمله، وحركة تطورها إلى النهاية المحتومة.

    وليس غريباً أن يذكرني سيبليوس بالموسيقي الإيطالي روسّيني، فهو بعد عمله «تابيولا» توقف عن التأليف إحدى وثلاثين سنة، التي انتهت بوفاته. الأمر الذي حدث مع الإيطالي الفاتن. لماذا؟ يجتهدُ الدارسون بالعلل والأسباب. فمنهم من يرى العلةَ في نقده الذاتي البالغ الصرامة لأعماله، ومنهم من يراها في حياة الرفاه التي حققتها له رعايةُ الدولة، فانصرف إلى الخمرة انصراف المدمن، والتي كان يسميها بـ»صديقي الأصدق». ولكنني لا أثق باجتهادات النقاد، فالمبدع في الموسيقى، وغير الموسيقى، قد ينضب موهبةً وإلهاماً. وتوقفه كجريان الماء في الطبيعة لا عيب فيه. العيب في أنْ يهينَ الطبيعةَ، استجابةً لغريزة  متدنية.

وبالرغم من ولعي بسيبَليوس، واحتفاظي بأعماله الكثيرة، لكن العمل الذي يُدعى «كل إنسان»، وهو عمل درامي قصير، كان متعةً مفاجئة. فهو يعود كنص إلى الشاعر الألماني هوﮔو ﭬون هوفمانسثال، الذي اشتهر بتعاونه كشاعر مع ريتشارد شتراوس كموسيقي، في حقل الأوبرا. وأصل العمل الدرامي يعود بدوره إلى ما يُسمى بـ»مسرح الفضيلة القروسطي». وضعه سيبليوس عام 1916، وبعد أن حقق نجاحاً في العرض، طواه النسيان.

الحكاية في هذه الدراما الدينية القصيرة بالغة البساطة. والجميل أن سيبليوس يلحّ على متابعةِ نبضِ النصِّ الشعري بنبض الموسيقى. فالبطلُ يُدعى «كل إنسان»، والاشارة في التسمية واضحة، يتعرض لغضب الله بسبب خطاياه. ثمة أجراسٌ توحي بالنذير، وسط لحن درامي يعلن أمراً إلهياً بموته. في حين يكشف لحنٌ متسارع تالٍ، بلمسةٍ بالغةِ الرهافة والرشاقة، عن انغمار البطل بمأدبةِ ملذات باذخة. يطرُ المحتاج ويتعبّد الثروة، ولا يلتفت إلى تضرعات أمِّه. بعدها تصلنا أغنيةٌ ذات بوح كنائسي، ثم أغنيةُ «الغابات تصبح خضراء»، التي تُسعد البطلَ قليلاً، قبل أن تعودَ إليه أجراسٌ النذير. ولكن في غمرة الموسيقى الاحتفالية التي تصف تهيامه بالملذات، يُقبل الموتُ لإنجاز مهمته. هنا يتضرع البطلُ من أجل صحبة تعينه في رحلته الأخيرة، ولكن ما من مساعد إلا امرأةٌ مسنة (العمل الصالح)، وأختُها (الإيمان)، تُقبلان من أجل إنقاذه، ولهما يستسلم نادماً ومصلياً عبر لحن كورالي، مستوحىً من موسيقى باخ، على صوت الأورﮔن. هنا يظهر الشيطان، مع موسيقى بالغة الزخرف، طامعاً بإعادة روح البطل إلى الرذيلة. ولكن الأختين المُسنّتين تحولان دونه، وتعود الأجراس الأولى، ولكن بغيطة هذه المرة، معبرةً عن دحر الشيطان، وعن الحياة الأبدية.

توفي سيبليوس عن واحد وتسعين عاماً، وعُزف هذا العمل في جنازته.