كيف تكسب الانتخابات بأعلى الأصوات؟

نشر في 10-01-2016 | 00:01
آخر تحديث 10-01-2016 | 00:01
 ياسر عبد العزيز البرلمان المصري الجديد الذي يبدأ عمله اليوم سيكون معنياً بإعادة تنظيم المجال الإعلامي المصري، عبر إصدار قوانين تُفعّل الاستحقاقات الدستورية، وتوقف الانفلات الحالي، وتحد من الأخطاء البشعة التي تُرتكب عبر وسائل الإعلام.

حين يلتئم البرلمان المصري الجديد اليوم، في جلسته الافتتاحية، ليقسم أعضاؤه اليمين الدستوررية لمباشرة صلاحياتهم، سيكون بينهم أكثر من 20 صحافياً وإعلامياً، حصلوا على مقاعدهم بالانتخاب أو التعيين.

وفق أفضل المعلومات المتوافرة، فإن هذا العدد غير مسبوق في تاريخ الحياة البرلمانية المصرية، التي بدأت في عام 1866، في عهد الخديوي إسماعيل.

إن ذلك التطور جدير بالاهتمام لأسباب عدة؛ أولها يتصل بتصاعد الدور السياسي الذي يلعبه إعلاميون وصحافيون في مصر راهناً، وثانيها يتعلق بتعاظم دور وسائل الإعلام الجماهيرية، وافتئاتها على أدوار الأحزاب والمجتمع المدني، بسبب ضعف الجسم السياسي وهشاشته.

ليس هذا هو أهم ما حدث في ذلك الصدد؛ فقد حصد الإعلاميون والصحافيون، أو النجوم البارزون الذين يستمدون قدراً من أهميتهم عبر ظهورهم في وسائل الإعلام، أعلى الأصوات في دوائرهم الانتخابية، بل إن عدداً منهم لم يكن في حاجة إلى الإعادة مثل الكثير من السياسيين والتكنوقراط والعسكريين البارزين أو البرلمانيين المخضرمين.

يشير هذا التطور إلى مفارقة خطيرة؛ إذ "تزيد الثقة العامة المفترضة، عبر انتخابات مشهود بنزاهتها الإجرائية، في الصحافيين والإعلاميين، أو النجوم والأشخاص النافذين إعلامياً، في وقت يعيش الإعلام المصري فيه أسوأ أيامه، ويسود انطباع عام بين مختلف القطاعات وأغلب المهتمين بأنه في أدنى مستوياته المهنية والأخلاقية على الإطلاق".

على عكس نسق القيم الذي يحكم صناعة إعلام رشيدة في كثير من دول العالم، يبدو أن الإعلام المصري طوّر نسقاً خاصاً جديداً في تلك الأثناء، بسبب عوامل عدة؛ بعضها يعود لظروف موضوعية تمر بها البلاد، وأغلبها يتصل بهيمنة أجواء من الرداءة والاستسهال واللامبالاة في شأن الضبط والإلزام المهنيين عموماً.

ومن ذلك أن منظومة من "القيم المضادة" باتت تهيمن على قطاع كبير من المجال الإعلامي المصري، وهي قيم تعتبر أن "الحياد خيانة"، و"الموضوعية خرافة"، و"التوازن عدم وطنية"، و"الدقة حذلقة"، و"إتقان اللغة مسؤولية المدقق"، و"التدريب إضاعة وقت"، و"النسب إلى المصادر يضعف الخبر"، و"أهم موضوع هو الأكثر قراءة"، و"أفضل مذيع هو أفضل مهرج"، و"إيراد الخلفية والسياق استهلاك للمساحة"، و"مراعاة الإنصاف ما تأكلش عيش"، و"احترام الملكية الفكرية تنطع"، و"الرقص على الحبال والمواقف... رشاقة"، و"تبديل الولاءات... حرفنة".

وبسبب سيادة هذا النوع من "القيم المضادة"، فقد تدنى الأداء الإعلامي إلى مستويات خطيرة، ورغم أن الجمهور استمر في إظهار الاستياء والرفض لأنماط الأداء الحادة والمنفلتة، لكنه في الوقت نفسه واصل مساندة تلك الأنماط عبر الإقبال عليها والترويج لها، ليس هذا فقط لكن الجمهور أيضاً أعطى أصحاب تلك الأنماط الإعلامية الرديئة أعلى الأصوات في الانتخابات، وبعض هؤلاء سيستهل مهمته في التشريع للمصريين والرقابة على حكومتهم اعتباراً من اليوم.

يعتقد البعض أن وسائل الإعلام تحكم الجمهور، وتشكل وعيه، وتحدد خياراته.

لكن آخرين يرون أن "أيديولوجية الإعلام تعكس أيديولوجية المجتمع"، كما يقول الباحث البارز فرانز فانون.

يقودنا ذلك إلى صياغة فرضية قابلة للنقاش؛ الفرضية تقول: إن الذين حصلوا على أعلى الأصوات في انتخابات مجلس النواب المصري، يحظون بثقة القطاعات الغالبة من الجمهور الذي ذهب إلى الصناديق، ويحظون باهتمام ومتابعة القطاعات الغالبة من جمهور وسائل الإعلام، بصرف النظر عن الانتقادات التي يوجهها البعض لهم.

وبصيغة أخرى، فإن من تحصل أخبارهم وفيديوهاتهم على أعلى عدد من القراءات والمشاهدات هم أنفسهم الذين حصدوا أعلى الأصوات الانتخابية... أي أعلى معدلات الثقة بأدائهم وإمكاناتهم، بصرف النظر عما إذا كان سلوكهم عبر وسائل الإعلامي مهنياً أو مسؤولاً.

سيمكننا إذاً أن نبلور نتيجة يمكن صياغتها في صورة نصيحة للطامحين إلى الانخراط في العمل العام، عبر العمليات السياسية التنافسية، في بلد مثل مصر.

النصيحة تقول: إذا أردت أن تحصل على ثقة الجمهور، إلى حد يفوضك لتمثله، فليس أمامك سوى أن تجعل هذا الجمهور يعرفك، ويتابع أخبارك، و"يشيّرها"، ويتحدث عنها بأعلى كثافة ممكنة.

لا يحدث هذا في مصر فقط بكل تأكيد، فثمة عدد من الوقائع المهمة التي تشير إلى محاولة تجيير مشاهير الفن أو الإعلام أو الكرة شهرتهم من أجل حصد أصوات الجمهور في منافسات سياسية.

لكن المعادلة التي يطرحها الواقع المصري الراهن تبدو مختلفة بعض الشيء؛ إذ يتم الربط هنا بين السلوك المنفلت والحاد عبر وسائل الإعلام والإطاحة بالمعايير المهنية والقيم من جانب، وبين حصد أعلى القراءات والمشاهدات، ومن ثم الحصول على ثقة الجمهور وأصواته من جانب آخر.

سيفسر لنا هذا سبب السلوك المشين لعدد من الإعلاميين والنجوم، الذين قاموا بانتهاكات مهنية خطيرة في الآونة الأخيرة.

بعض من فاز بجدارة وتفوق واضحين في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في مصر ارتكب مخالفات إعلامية وجرائم جنائية مكتملة الأركان؛ مثل انتهاك الخصوصية، والسب والقذف، والاغتيال المعنوي وتشويه السمعة، وإذاعة الأخبار الكاذبة والمفبركة، وتكدير السلم الأهلي، والإضرار بالعلاقات الخارجية، والدجل والشعوذة.

المعادلة واضحة كما لم تكن من قبل: الممارسة الحادة والشاذة والمأفونة طريق مضمون إلى النفاذ والرواج، ومن خلال النفاذ والرواج ستحصل على الشهرة، التي يمكن ببساطة شديدة تحويلها إلى أصوات انتخابية، تعكس ثقة الجمهور بقدراتك وإمكاناتك، وتدفعه إلى أن يطلب منك أن تمثله وتحكمه.

أين سيذهب إذاً الحكماء، والباحثون، والعلماء، والسياسيون البارعون، والمُجدّون، وأصحاب السمعة الحسنة والإنجازات؟

على الأرجح، فإن معظم هؤلاء لن يعرفهم الجمهور، وبالتالي لن يصوّت لهم.

يبقى الإشكال الكبير في أن البرلمان الذي يبدأ عمله اليوم سيكون معنياً بإعادة تنظيم المجال الإعلامي المصري، عبر إصدار قوانين تُفعّل الاستحقاقات الدستورية، وتوقف الانفلات الحالي، وتحد من الأخطاء البشعة التي تُرتكب عبر وسائل الإعلام.

ولذلك، فإن المخاوف تبقى كبيرة وملحة؛ لأن الإخفاق في هذه المهمة سيؤدي بالإعلام المصري إلى البقاء في ساحة الانفلات والخطل، أو يأخذه إلى حالة استبدادية قمعية جديدة.

* كاتب مصري

back to top