التخييل الذاتي

Ad

وضع الفرنسي "فيليب لوجون- Philipe Lejeune" في كتابه "ميثاق السيرة الذاتية - le Pacte autobiographique" عام 1975، تعريفاً شهيراً لكتابة السيرة الذاتية، قائلاً: "هي حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي لوجوده الخاص، وذلك عندما يركّز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة."

ولقد كان ولا يزال هذا التعريف أمامي وأنا أكتب كل ما يخص سيرتي الذاتية، فأنا أستعيد أثناء الكتابة بشكل نثري وجودي الخاص، مركزاً على تجارب حياتي الشخصية ضمن المحيط الذي أعيش فيه بين أسرتي وأصدقائي ومعارفي ومحيط عملي ومجتمعي.

تجارب الإنسان الحياتية لا يمكن أن تظهر إلى الوجود وتكتمل إلا عبر التواصل والاحتكاك مع الآخر، سواء كان هذا الآخر بشراً أو حجراً أو خيالاً أو فكرة، لذا فإن كتابة السيرة الذاتية إذا كانت تحمل على وجهها الأول سيرة حياة كاتبها، فإنها تحمل على وجهها الثاني سيرة من شاركه هذه الحياة، وهنا يكمن مأزقها وتكمن خطورتها، فأي إنسان يمتلك حق الكتابة عن نفسه، لكنه لا يمتلك حق الكتابة عن حياة الآخر في تفاصيلها الحميمة والمخجلة، لأن تعرية حياة الناس بأسمائهم الحقيقية يشكل لطخةً وجرحاً دامياً في وجه أي مجتمع من المجمعات.

الإنسان حسب العقيدة الإسلامية مطالب بستر نفسه، وستر الآخر إذا ما رآه في موقف شائن، وفق مقولة: "إذا ابتليتم فاستتروا"، ولأن السيرة الذاتية في مجملها هي كتابة عن الشأن الإنساني الخفي وغير الظاهر للعيان، فمؤكد أن هناك من سيرى فيها فضيحة وعاراً، فكيف لكاتب أن يجازف بحياته وحياة الآخر/ المرأة، وهو يوثّق حوادث وعلاقات غرامية وحباً وجنساً؟

من هنا تأتي إشكالية كتابة السيرة الذاتية، التي يعتبرها البعض بمنزلة فضح الإنسان لنفسه ومحيط أسرته وصداقاته، وأنه يقترف ذنباً لابدَّ أن يُعاقب عليه من قِبل سلطة الأفراد والمجتمع، مع الأخذ بعين الاعتبار عدم قدرة كاتب على توثيق سيرة حياته بشكل صادق دون المرور بمنزلقات العلاقات تحت السطحية، والعلاقات التي قد تُعدّ شائنة بنظر شريحة متحفظة من المجتمع، خلافاً للكتابات التي ينطلق فيها الكاتب لانتقاد ممارسات أفراد السلطة الحاكمة في الدول ذات الأنظمة الشمولية والدكتاتورية القمعية، أو كشف تجاوزات أو فساد أجهزة السلطة، وفي هذه الحال، لن يكون غريباً أبداً أن يقع الكاتب رهن الاعتقال والسجن والتعذيب، وكثير من الكتّاب العرب تم سجنهم لمجرد مقال أو قصيدة أو أغنية أو قصة قصيرة، بينما تمت تصفية البعض الآخر لأنهم كشفوا ما لا يجب كشفه!

حقل الألغام

كتابة السيرة الذاتية، في المجتمعات المحافظة تُعدّ سيراً في حقل ألغام، وعلى الكاتب أن يكون فدائياً كي يستطيع أن يكون صادقاً فيما يكتب؛ فهو موزع بين أمور أربعة كما يلي:

1 - ضرورة الصدق في كتابة السيرة الذاتية بتفاصيلها سواء كانت حميدة أو رذيلة.

2 - مأزق الكتابة عن الغير، وكشف أسرارهم، سواء كانوا أشخاصاً أو مؤسسات.

3 - شغف القارئ للاطلاع على الأسرار الخفية لحياة الكاتب.

4 - خوف الكاتب من سطوة المجتمع المنغلِق وإدانته لأي اعتراف يُدلي به على نفسه، بما يعرّضه للمساءلة أو المحاكمة، وقد يقوده إلى والسجن.

أثناء كتاباتي لسيرتي الذاتية الحقيقية، أنظر بعين إلى "ميثاق السيرة الذاتية"، للفرنسي "فيليب لوجون" وأنظر بالعين الأخرى إلى مصطلح "Auto Fiction" الذي ظهر عام 1977 للكاتب "سيرج دبروفسكي- Serge Doubrovsky" الذي يُعرّف من خلاله كتب السيرة الذاتية بأنها "المؤلَف الأدبي الذي من خلاله يخترع الكاتب وجوداً آخر ويتقمص شخصية أخرى مع المحافظة على هويته الواقعية".