الجذور الفكرية للتطرف العنيف
ما التطرف؟ تطرف في الأمر وقف في الطرف الأقصى وابتعد، ويقابله "التوسط" و"الاعتدال"، وتشدد في الأمر: بالغ وغالى وحمل نفسه المشقة، ويقابله "التيسير" و"التخفيف"، ويقترن التطرف غالباً بأيديولوجية دينية أو سياسية أو اجتماعية أو فكرية، تدفع معتنقها إلى ادعاء تملك الحقيقة الكاملة، وأن الرأي الذي يعتنقه ويدافع عنه لا يقبل الجدل أو النقاش، لأنه الصواب المطلق، بمعنى أنه لا يؤمن بنسبية الحقائق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، فهو آحادي التفكير، لا يقبل التعددية ولا الرأي الآخر، وهو على حق والآخرون على باطل. وهذا الشخص غالباً يعيش حالة نفسية وعقلية متشددة، ومزاجه أميل إلى توسيع دائرة التحريم، لا يؤمن بأن الأصل في الأشياء الإباحة، فهو مثلاً يحرم الموسيقى والغناء والتصوير، ويحرم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف أو رأس السنة الهجرية بحجة أنهما "بدعة" ولا السنة الميلادية، لأن من تشبه بقوم فهو منهم، يرى فرضية النقاب وتقصير الثياب وتطويل اللحية، ويتشدد في أي أمر يخص المرأة: ملابسها، وعملها، ودورها المجتمعي، وقيادتها للسيارة، وتوليها المناصب القيادة، وسفرها، واختلاطها، بل يتوجس منها، ويراها مصدر الغواية والفتنة، حتى إذا تعرضت لتحرش فهي الملومة لخروجها من بيتها!
لا يتقبل الآخر المختلف ديناً أو مذهباً، ويرى الجنة استحقاقاً لفرقة واحدة (الفرقة الناجية) دون غيرها، يحرم تحية أهل الكتاب، وهو وإن أجاز حسن التعامل معهم إلا أنه يوجب إضمار الكراهية لهم، لأنهم على باطل، لذلك يحرم تعزيتهم أو المشاركة في احتفالاتهم، ولا يجوز السماح ببناء الكنيسة لهم، هذا النمط من التشدد الذي يقتصر على الشخص نفسه ولا يصاحبه سلوك عدواني أو خطاب تحريضي أو إساءة للآخرين أو فرض الرأي عليهم، لا مشكلة لنا معه، فهو تشدد يقتصر على الشخص نفسه في سلوكياته وتصرفاته وفكره، والإنسان حر فيما يعتقده ويختاره، بل قد يدخل في باب "الورع" الزائد في بعض الحالات. أما التشدد الآخر الذي يثير مشاكل عديدة، فهو "التطرف العنيف" الذي يجتاح مجتمعاتنا والعالم، والذي يهدد الأمن ويثير الاضطرابات والقلاقل العنيفة ويشكل معول هدم للأوطان، والذي تقوم به الميليشيات المتطرفة في العديد من الدول العربية والإسلامية مجسدة في المجازر الدامية، وقطع الرؤوس، وحرق البشر، وبث الرعب وتشريد الآلاف وتهجيرهم، واسترقاق النساء، وبيعهن وتدمير الآثار والقتل الجماعي، وبث أشرطة المجازر والتباهي بها، هذا التطرف العنيف الذي اصطلح العالم على تسميته بـ"الإرهاب" هو ما ينبغي أن يشغل اهتمامات علماء وحكماء ومفكري خير أمة أخرجت للناس! ما منابعه؟ وما العوامل التي ساهمت في انتشاره؟ وما جذوره الفكرية؟أتصور أبرزها: 1- تشويه مفهوم "الجهاد" الذي حولته الجماعات المتطرفة من الدفاع عن الدين والأوطان ضد المعتدين إلى العدوان على المدنيين المسالمين والمصلين في بيوت الله تعالى، مما يستوجب مراجعة أساليب تدريسنا لمفهوم الجهاد في المناهج الدراسية، بما يتفق وظروف العصر وواقع العلاقات الدولية ومواثيق حقوق الإنسان ومتطلبات المصالح الدولية المشتركة. 2- تشوية مفهوم "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" الذي استغلته جماعات العنف لفرض الوصاية وإرهاب المخالفين وقمع الحريات ومنازعة الدولة والخروج عليها بالسلاح، مما ينبغي إعادة النظر في كيفية تدريس هذا المبدأ، وفق منظور حضاري إيجابي تنموي. 3 -غلبة مفهوم التعصب القبلي والطائفي على مفهوم "المواطنة"، وذلك لقصور الدولة الوطنية في دمج المكونات والأطياف المجتمعية دمجاً "طوعياً" يعزز المواطنة الشاملة والمتساوية والحاضنة لكل الجماعات العرقية والمذهبية، لذلك ظلت تلك المكونات تتعايش معاً بحكم الضرورة وقوة الدولة الباطشة والخوف منها، وحين انهارت سلطة الدولة، كما حصل بعد أحداث الربيع العربي، انطلقت الانتماءات الأدنى المكبوتة تصارع بعضها بعضاً وتفجر الأوضاع، وهذا يتطلب من دولنا ترجمة "المواطنة" على أرض الواقع، ترجمة صحيحة، وفق قاعدة "حياد الدولة" الديني والمذهبي والسياسي. 4- التصور المثالي لدولة الخلافة السائد لدى كل الجماعات الإسلامية، المعتدلة والعنيفة التي تسعى إلى إعادة الخلافة، انطلاقاً من تصور مثالي "وهمي"، مع أن حقائق التاريخ تثبت أن نظام الخلافة منذ معاوية كان سلسلة من الظلمات، بعضها فوق بعض، وهذا يتطلب إعادة النظر في أسلوب تدريسنا للتاريخ الإسلامي بإيجابياته وسلبياته. 5- التصور المشوه للآخر الغربي وللحضارة الغربية: فهناك كراهية متأصلة في نفسية قطاع عريض من العرب تجاه الغرب وحضارته، عززتها أحداث تاريخية ورسختها تيارات قومية وإسلامية ويسارية عبر مناهج دراسية وخطاب سياسي وثقافي استأثر بالساحة، وصاغ توجهات الرأي العام العربي تجاه الغرب، وزرع التوجس منه، وصوره عدوا متربصاً لا همّ له إلا تدبير المؤامرات على الأمة بهدف تقسيمها والتحكم في مقدراتها، مما عمق كراهية الغرب في نفوس بعض شبابنا ودفعهم إلى السعي للانتقام والثأر منه، استرداداً لكرامة الأمة المستباحة، ونحن اليوم بحاجة ماسة إلى تفكيك هذا الخطاب الأيديولوجي السائد، حماية لمستقبل شبابنا. 6- فكرة "الحاكمية" التي استمدها المودودي من مقولة الخوارج "لا حكم إلا لله" تعالى وتبناها سيد قطب، لتصبح دستوراً مرشدا لكل الجماعات المتطرفة التي تنازع دولنا بقوة السلاح، بحجة أنها لا تحكم بشرع الله تعالى وأنها تتحاكم إلى "الطاغوت". ختاما: هذه أبرز الجذور الفكرية للتطرف العنيف.* كاتب قطري