الشاعر سمير درويش: قصيدة النثر فنٌ بكر يحتمل الإضافة والدهشة
دار في فلك القصيدة وعشقها، فأصبحت نجمة حظ تضيء سماء مشواره الأدبي الذي بدأه عام 1991 مع قصيدة النثر بديوان «قطوفها وسيوفي»، مروراً باثني عشر ديواناً أحدثها صدر قبل أيام بعنوان «أبيض شفاف». «الجريدة» التقت الشاعر المصري سمير درويش ورصدت معه أجواء الديوان الجديد واستطلعت رأيه في قضايا تهم المثقف العربي، فإلى نص الحوار.
كيف يبدأ الشاعر تجربة جديدة مع ما نلاحظه من انطواء الدواوين الحديثة على تجارب شبه مكتملة كأنها روايات؟ وكيف بدأت تجربة ديوانك الأخير {أبيض شفاف}؟تبدأ التجارب الجديدة بشكل عفوي غالباً، يستشعر الشاعر أن تلك القصيدة مختلفة، وأن موضوعها وجمالياتها سيرافقانه في قصائد عدة مقبلة، لأنه لم يستنفد ما يريده منها، هذا ما حدث معي حين بدأت، ما جعلني مرعوباً لأنها تدور في مكان ضيق، هو حدود منزلي الصغير، وتتجول داخل ذاتي وأحاسيسي وأفكاري ومشاعر الوحدة والانعزال والكآبة التي أعانيها، هذه الأمور بقدر ما هي جاذبة من شدة صدقها وحساسيتها ومسها جوهر القارئ الذي سرعان ما يتفاعل معها، بقدر ما هي نادرة وشحيحة، فكيف يمكن كتابة ديوان كامل فيها؟ كان هذا التحدي الأول الذي واجهني، والذي أعتقد أنني تغلبت عليه بمزيد من الصدق، وبألا أكتب لمجرد الكتابة، فالقصيدة تجبرني على أن أكتبها، كما أن الذاتية والتنقيب داخل الذات والبوح الذي يصل حد الفضح، من الموضوعات الأثيرة لديَّ، وأعتقد أنها رسالة الشعر الجديد الذي عليه أن يكشف الغامض في النفس الإنسانية، بالضبط كما عليه أن يقترح مسالك جديدة تسير فيها القصيدة كبناء جمالي، للخروج من أسر البلاغة القديمة التي صاحبت الشعر العربي عقوداً كثيرة، ومنعته من التحرر وولوج آفاق أرحب.ما هي الأسس الجمالية الجديدة التي تتأسس عليها قصيدة النثر لديك؟في دواويني الأخيرة، ومنها {أبيض شفاف} أعتمد المشهدية شكلاً جمالياً، أي تثبيت المشهد ووصفه بحياد ظاهري، دون تورط في وصف أحاسيسه، من ناحية لأن هذا صعب على المشاهد الذي يمر، ومن ناحية كي أفسح للقارئ المجال كي يضع أحاسيسه هو ولا يتقيد بما ألزمه به، كما كان الشعراء القدامى يفعلون حين يستدرون عطف القارئ، في البداية كان هذا الحياد - الظاهري- غريباً وصادماً لذائقة المتلقي الذي تعوَّد أن يترك نفسه للشاعر ليقول له كل شيء، لكنه بالتدريح والإصرار تعود عليه، كما تعود على خفوت الإيقاع. لا أقصد الموسيقى التراتبية، بل الإيقاع الداخلي العام الذي تراه في السينما في الفرق بين فيلم صاخب بالأصوات والحركة، وآخر رتيب صامت، لكنه عميق ونافذ. في أربع سنوات، منذ نهاية عام 2011 حتى الآن، أصدرتَ ستة دواوين، بمعدل ديوان ونصف كل عام، ما يمثل وفرة في الإنتاج بالمقارنة بغيرك من الشعراء. كيف تفسر ذلك؟أصدرت 13 ديواناً خلال 25 عاماً، أي بمعدل ديوان كل عامين، وهي نسبة معقولة، خصوصاً أنني لا أكتب سوى الشعر، أو لنقل إنني لا أهتم بجمع المقالات النقدية والسياسية في كتب لأنها ليست مشروعي الأصلي. أكتب هذه الأمور من موقعي كفاعل في الثقافة العربية، وكقارئ يريد أن يكتب انفعالاته على هامش الكتاب الذي يقرأه، حتى الروايتين اللتين كتبتهما يمكن وضعهما تحت عنوان الهوامش هذا، فقد سبق أن اعتذرت عنهما، رغم أن كثيرين من الأصدقاء يرونهما صالحتين لإثارة الدهشة، ورغم حصولهما على جائزتين، لكنني مجبول على الشعر، أحس أن شياطينه تسكنني وتتعارك داخلي لينتج شررها شعراً يصدم العالم، ويصدمني أنا نفسي، ولا أجد لديَّ رغبة في إيقافه أبداً، ثم إنني الآن في مرحلة نضج: في الأحاسيس والفهم والإدراك والواقعية، وهذا يساعد كثيراً على الإنتاج، الذي من المهم ألا يتكرر، وأتصور أنني أحاول تقديم شيء ما جديد في كل تجربة شعرية، في الشكل والمضمون، شيء لا يشبه الشعراء السابقين، ولا يشبهني أنا كذلك، مع الحفاظ على خيط رفيع ينتظم تجربتي التي أقترحها، والتي آمل أن تضيف معنى ما إلى قصيدة النثر باعتبارها فناً بكراً يحتمل الإضافة والابتكار والمزيد من الدهشة والاندفاع.الأدباء العرب مشغولون بالسياسة كثيراً بشكل قد يلهيهم عن الإبداع، أو يؤثر على جودته، هذا ما نلمسه من تدويناتك على مواقع التواصل الاجتماعي، لماذا يحدث هذا عندنا أكثر مما يحدث في الغرب؟القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ليست ترفاً في منطقتنا العربية، والعالم الفقير عموماً، لأن المواطن فيها يشارك في صنع الدولة، وفي انتقالها من المجتمع العشوائي الذي تسود فيه قوانين الغاب، إلى الدولة الحديثة المتحضرة المتقدمة الحرة الديمقراطية، وتلك لا تحدث بإرادة السياسيين مع الأسف، لأنهم يتطلعون إلى مزيد من الرفاهية وإلى إطالة أيامهم في السلطة حتى لو كان على حساب الدولة ومستقبلها، لذلك فالمثقف ينشغل بهذه الأمور ليساهم في انتزاع تلك الحقوق من السلطات الحاكمة لتصير منهجاً وأسلوب حياة، والمتلقي العربي يطلب الشعر السياسي المعارض الزاعق كما عند مظفر النواب وأحمد فؤاد نجم اللذين صنعا شهرتهما عليه، المهم هو كيفية تطويع ذلك للفن عند الكتابة بأشكالها، حتى لا يصير زاعقاً مهمته تفريغ الطاقة من دون مراكمة الجمال.وماذا عن انشغالهم بتجديد الخطاب الديني، خصوصاً أن قطاعاً عريضاً من الناس يرون في ذلك تجديفاً وخروجاً عن المعلوم من الدين بالضرورة، الأمر الذي يستوجب العقاب؟الذي لا يفهم عامة الناس أن الخطاب الديني ليس هو الدين ذاته، المتمثل في مصادره الرئيسة: القرآن والثابت من السنة الذي يوافق العقل ولا يتعارض مع التشريع الإلهي، لكنه الخطاب الوسيط المفسر لتلك المصادر، فالمشتغلون بالدين يتطلعون إلى أن يكونوا وسطاء بين العبد وربه، ويحاجونه بأنه لن يفهم النص وحده، بل سيحتاج إليهم للشرح والتفسير، مع أن المتابعة تثبت أن التعارض وتدخل الهوى وممالاة السلطات وذكر بعض التفسيرات وإغفال بعضها، ناهيك بعدم فهم أن النص الذي يناسب كل زمان ومكان- لأنه عام في كثير من تجلياته- يحتاج إلى مراجعة تطبيقاته من آن إلى آخر، وأتصور أن التطور لن يحدث ونحن ننظر إلى الوراء، ونتمنى العودة إلى القرن الأول، ونرى المثل في الماضي. الماضي رائع وجميل لكنه غير قابل للتكرار بالشكل ذاته، فالتاريخ عندما يعيد نفسه يتحول إلى مسخرة كالتي تجرنا إليها اليوم تلك الجماعات المتشددة التي تعتبر أنها المسلمة، وأننا كفار، بدليل أنها تحارب المسلمين للدخول في الإسلام! فهل ثمة عبث أكثر من هذا!